تحوّل سياسيّ بطيء ومنظومة إقتصادية متخلّفة
quot;رجال الخيمةquot; يعيدون إنتاج جماهيرية تنال رضا الغرب في 2009

حصاد 2008: عام الخيبة... والأمل
إسماعيل دبارة ndash; إيلاف: يدخل الليبيون عامهم الميلاديّ الجديد 2009 بآمال كبيرة ترسّخت دوافعها في مستجدّات العام المنقضي الذي حمل بين أشهره الإثني عشر الكثير والكثير. اتفاق دبلوماسي تاريخيّ مع المستعمر الايطالي الذي التزم بدفع التعويضات عن فترة احتلاله للجماهيرية وهو ما مهّد لارتماء مفاجئ في أحضان الكتلة الغربية و من ثمة عودة العلاقات إلى كلّ من زعيمة النظام العالميّ الجديد و الاتحاد الأوروبي. و جاء اتفاق 14 أغسطس / آب الماضي و تسوية مشاكل طرابلس وواشنطن بخصوص الجدل الذي فتح حول التعويضات عن تفجيرات quot;لوكربيquot;، لتأتي الزيارة العظمى لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى جماهيرية القذافي و تعلن بدأ صفحة جديدة من العلاقات التي تضلّ - مهما قيل وكتب - مفتوحة على كلّ الأبواب و الاحتمالات. العقيد القذافي لم ينس أو يتجاهل روسيا التي راقبته بصمت في مرحلة أولى وهو يحثّ الخطى نحو الشمال ، ليقوم العقيد بزيارة تاريخية إلى موسكو كردّ على زيارة الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين لطرابلس في أبريل 2008، و إن كانت الزيارة تعكس في مضمونها رغبة من العقيد في تحقيق شيء من التوازن في علاقاته بين كلّ من القطب الشرقيّ و الغربي، إلا أنّ صفقات السلاح الضخمة التي عاد بها إلى خيمته في طرابلس حملت أكثر من رسالة.

اقتصاد quot;مُتخلّفquot;...نجا من الأزمة

هذا فيما يخصّ السياسة و العلاقات الدولية ، أما في ما يتعلّق بالاقتصاد الليبي فالجديد و الهام تمّ رصده بالفعل على الرغم من الستار الحديديّ الذي أراده العقيد حاجزا بين أمواله من جهة و شعبه و جيرانه من جهة ثانية. ليبيا واحدة من أغنى الدول في شمال إفريقيا مقارنة بعدد السكان لكنّ الفقر والمشاكل الاجتماعية سمة بارزة لشعبها ويرجع متابعون هذه المفارقة إلى السياسات الاشتراكية الفاشلة طيلة الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين لمّا ألغي القطاع الخاص بالكامل وفق نظرية quot;الكتاب الأخضر القذافيّ quot; و تمت مقارعة التجارة والملكية الخاصة وحق الربح. يقول المحلّل السياسي و الكاتب الليبي جمعة قماطي لإيلاف:quot; ليبيا تعتمد أساسا وبالكامل على ريع النفط والغاز، وهي تعتبر من الدول الريعية التي تتحكم السلطة الحاكمة فيها في كل مصادر الثروة، الأمر الذي فتح أبواب الفساد المالي والإداري على مصراعيه واستشرت ظاهرة السرقة وتهريب الأموال إلى الخارج من قبل مسئولين حكوميين.

الانفتاح الاقتصادي الذي تزامن مع التطبيع مع الغرب ما زال متعثرا بسبب غياب التشريعات الواضحة والإرادة في الإقرار أن أفكار الخطاب الأخضر وتصوراته الاشتراكية قد فشلت وتسببت في وجود اقتصاد هش واستهلاكي بحت يعتمد على ريع النفط، ولا ينوع مصادر الدخل وبدائل لما بعد حقبة النفط في المستقبل المتوسط والبعيد، خاصة إذا ما نجح الغرب المستهلك للنفط في تطوير مصادر بديلة للطاقة. ويعتبر القماطي الاقتصاد الليبي - في جانبه المتعلق بالخدمات المصرفية والمالية ndash; quot;متخلفا وغير مندمج في المنظومة العالمية بما في ذلك أسواق البورصةquot;، وربما كان هذا في صالح ليبيا ، إذ جنبها ذلك خطر الهزات العالمية الأخيرة في أسواق المال.

كما أنّ الجماهيرية الليبية لا تملك قطاعا عقاريا بالشكل المتعارف عليه حتى يتمكّن المتابع من تحليل تداعيات أزمة الرّهون العقارية في الولايات المتحدة عليها ، فليبيا quot;تملك فقط قطاع من quot; أحياء الصفيح quot; والمساكن الشعبية العشوائية ، وquot; فيلات مغتصبة quot; من قطاع عقارات كانت قد شيدت في العهد الملكي ، أو فيلات أخرى لبعض السماسرة والشطار وعملاء السلطة ولكنها مسوّرة كالقلاع حتى لا تبدو للعموم والمستقبل فقط لقطاع quot; الخيام والعشش quot;الذي ليس في ذهن القائد شيء أعلى مستوى منها على حدّ تعبير الكاتبة و المحللة السياسية الليبية نداء صبري عياد.

وليبيا تملك صندوقا أو هيئة وطنية للاستثمار الخارجي برأس مال حوالي خمسين مليار دولار مرشحة للزيادة إلى مائة مليار دولار في العشر سنوات القادمة ما لم تشهد البلاد انهيارا كبير في أسعار النفط، وقد صرّح مسئولين في هذه الهيئة مؤخرا بأن خسائر ليبيا من جراء استثمارها في المؤسسات المالية العالمية قد بلغت ثلاث مليارات دولار من جراء الأزمة الأخيرة وقد تكون الخسارة أكثر بكثير نظرا لغياب الشفافية والمحاسبة من قبل مؤسسات رقابية.

و تقول الكاتبة نداء صبري عياد المعروفة باسم quot;ريم ليبياquot; لإيلاف في هذا الصدد :quot; انهيار وول ستريت والأزمة المالية العالمية تعني أولا ضياع وخسارة ثلاثة مليارات دولارات ، من استثمارات وودائع الجماهيرية في أميركا ، حسب ما كشفه موقع الاستثمار الرسمي الليبي قبيل أيام www.swfinstitute.org/fund/libya.php ، أما بالنسبة للشعب الليبي فلن يعني شيئا جديدا ، فالفقر والعوز سيتواصل بسبب إصرار القذافي على ذلك منذ أكثر من ربع قرن ، فالأجور و رواتب الموظفين وأجور المستخدمين والعمال مجمّدة ولا علاقة لهذه الأجور بما يجرى في العالم من ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتوفر السلع أو ندرتها وكل الليبيون فقراء وأي أسرة لا يعمل فيها الزوج والزوجة والأبناء ،تعتبر تحت خط الفقر.

و بخصوص تداعيات انخفاض أسعار النفط عالميا ترى السيدة نداء صبري عياد التي تحدثت لإيلاف من كندا إنّ النفط ومداخليه لا تعنى للشعب الليبي شيئا حسب التصريح الرسمي الذي أعلنه القذافي منذ سنوات فالنفط ومداخليه يخصه شخصيا ثم أسرته ، ثم المنتفعون به من القبيلة والحاشية وأدوات السلطة وأجهزة الأمن الشخصي ومخابرات القائد ومصاريف الرحلات وشراء ذمم حكام أفريقيا والعرب والعالم.وأي انخفاض في الأسعار ليس بالأمر المهمّ بالنسبة للمتخمين من مداخليه السابقة ، و للقذافي ما يكفي لشراء المواد التموينية الضرورية والرخيصة،ولذلك فان تراجع أسعار النفط أو انكماشها ، بل حتى وان توقّف تصدير النفط لفترة، لا يعني أي شيء للجماهيرية العظمى ولا لنظامها البديعquot; على حدّ تعبيرها.

ولا يختلف المحلّل السياسي جمعة القماطي الذي تحدّث مع quot;إيلافquot; من لندن مكان إقامته مع السيدة quot;ريم ليبياquot; ، إذ يقول :quot; تبقى قضية سوء إدارة دخل ليبيا الهائل من النفط، وتحكم العقيد القذافي والدائرة الصغيرة الحاكمة من حوله بالكامل في أوجه إنفاق تلك العوائد، واستشراء الفساد والسرقة من العوامل الرئيسية في حرمان الشعب الليبي من الاستفادة من ثروات بلادهم، والحرمان من المشاركة الاقتصادية إلى جانب التهميش الكامل من العملية السياسية. وبالتالي فإن الحرمان الاقتصادي يعتبر مصدر احتقان كبير خاصة وسط شرائح الشباب إذ أنّ ثلاثة أرباع سكان ليبيا تقريبا دون سن الثلاثين، وتنتشر البطالة والشعور بانسداد الأفق أمام هذه الشرائح المتململة.

واستنادا إلى القماطي فإنه ما لم تكن هناك إرادة قوية في العام الجديد لمحاربة الفساد المستشري وتوسيع هامش المشاركة والاستفادة من مداخيل النفط فإن مستوى الاحتقان مرشح للازدياد في 2009 خاصة في ظل الشّمولية السياسيّة وغياب كامل لثقافة التعددية والتعبير الحر، وفشل مشروع سيف الإسلام القذافي في الإصلاح الذي تجلى لدى عامة الناس في ليبيا وعرف الآن بأنه مشروع quot; وراثة حكم وليس إصلاحا سياسياquot; يقود إلى انفراج على مستوى الحريات والمشاركة من قبل شرائح المجتمع ونخبه التي تعاني حاليا الإقصاء الكامل من قبل المنظومة الثورية الحاكمة بقيادة العقيد.

تحوّل سياسيّ بطيئ

ما سبق وتمّ الإشارة إليه حول عودة العلاقات بين طرابلس والعواصم الغربية قد يعني في نظر بعض المتابعين للموضوعquot; مرحلة تحول سياسي بطيء ولكنه جذري واستراتيجيquot; خصوصا في ما يتعلّق بسياساتها الخارجية المتذبذبة والتي من الواضح أيضا أنّ العقيد بدأ في التكيّف مع تحوّلات العالم الكبيرة.

quot;يجب أن نقر بأن العقيد القذافي قد أجاد لعبة التكيف مع هذه التحولات لصالح البقاء في الحكم بينما فشل زميله صدام حسين بامتيازquot;، يقول جمعة القماطي و يتابع quot;من المؤكد كذلك أن العقيد ونظامه السياسي لم يجاري التنازلات والتراجعات الضخمة التي قدمها في اتجاه الخارج بتنازلات موازية في اتجاه شعبه على مستوى المشاركة السياسية والاقتصادية والحريات واحترام حقوق الإنسان. ربما بسبب غياب ضغط حقيقي داخلي أو خارجي وهو الأمر الضّروري لاستقطاع التنازلات من الحكام الشّموليين اللذين لا يتنازلون عادة حتى عن جزء من سلطاتهم المطلقة طواعية أو وفق قناعة فكرية بحقوق الآخرين.

نداء صبري عيّاد بدت أكثر تشاؤما وهي تقول:quot; في بقاء النظام الجماهيري واستمرار السلطة الفوضوية والقمعية ، لا يمكن للشعب الليبي الفقير والمحاصر أن يتطلع إلى أي مستقبل ، ومن الواضح أن هذا quot; النظام الفوضوي القمعي quot; متفق عليه دوليا ومدعوم ومرغوب في استمراره ، ولن تؤثر فيه أو تخلخله بعض الزفرات المكبوتة وهذا التململ التعيس ،على غرار ما حدث في quot;بنغازيquot; أو quot;الكفرةquot; أوquot; طرابلسquot;.

و قد يكون ما قام به العقيد الليبي خلال العام 2008 من إجراءات و زيارات و انفتاح على الخارج محاولة منه ndash; لدى البعض - لإعادة هندسة وإنتاج نظامه حتى يتوافق مع المنظومة الدولية في 2009 وينال شهادة quot;حسن سيرة وسلوك ورخصة استمرارquot;. وهو استمرار من المرجّح أن يتمّ من خلال توريث الحكم للأبناء الذين سيضمنُون الاستقرار المطلوب لرعاية المصالح الدولية وعلى رأسها تدفّق النفط الذي تملك منه ليبيا أكبر احتياطي في أفريقيا.و يرى جمعة القماطي أنّ لوبي شركات النفط الأميركية تلعب دورا قويا في ترسيخ سياسة الإدارة الأميركية التي بدأها بوش في التعايش مع نظام القذافي واستيعابه بالكامل لصالح استراتيجياتها في المنطقة.

لذلك فهو لا يتوقّع أن تحيد إدارة الرئيس الجديد أوباما عن هذا الخيار في سير العلاقة مع ليبيا، خاصة وأن أولويات أوباما في المنطقة ستكون أفغانستان والخروج من مستنقع العراق.لكن الجديد في إدارة أوباما سيكون وجود نائب الرئيس الجديد السيد جوزيف بايدن الذي زار ليبيا في السنوات الماضية وانتقد العقيد القذافي بشدة حول غياب احترام حقوق الإنسان والديمقراطية في ليبيا، كما تبنى بايدن السجين السياسي الليبي فتحي الجهمي وطالب بإطلاق سراحه. لذلك فإذا ما نجح أوباما في الخروج من العراق وترميم صورة أميركا في العالم العربي والإسلامي ولو جزئيا فأنه قد يأخذ مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان بأكثر جدية من سلفه بوش وتكون هناك ضغوطات أكثر على النظام الليبي ربما بتشجيع شخصي من نائب الرئيس بايدن.

نداء صبري لا ترى في سياسات اوباما المنتظرة غيرquot; سمن على عسل quot; ما دامت الجماهيرية العظمى تدفع، وقد دفعت في السابق الإتاوات الضخمة للأميركان على جرائم (لوكربى) وما دام العقيد مستعد لدفع المزيد في سبيل استمراره في السلطة وبقاء جماهيريته وحرسه النسائي والرجالي وصورته هي الوحيدة والفريدة التي تملأ الشاشة ، واسمه هو الوحيد الذي تسبح به فضائياته غير المرئية وإذاعته غير المسموعة.وستبقى واشنطن على الدوام الصديق الصدوق للنظام الجماهيري وحريصة على استمراره وتحقيق المزيد من إنجازاته، أما حقوق الإنسان والديمقراطية ، فهو مجرد كلام بالنسبة للأميركان ، ومجرد quot; أي كلام quot; بالنسبة للقذافي ، وستبقى quot; قاعدة quot; القذافي في استمرار السلطة قائمة على أساس المقولة القذافية : quot; مؤتمرات شعبية تقرر ولجان ثورية تنفذ quot; والفاتح أبدا والثورة مستمرة.

فكرة الدستور الجديد المطروحة حاليا تأتي حسب البعض ضمن الترتيبات الملحوظة لمرحلة ما بعد القذافي وتقنين وراثة الحكم لأبنائه. ويشرح جمعة القماطي :quot;أحد مواد هذا الدستور المقترح تنصّ على وجود مجلس قيادة اجتماعية وسياسية لليبيا يتكون من مائة عضو يتم اختيارهم بالتعيين بطريقة عشوائية غامضة - وليس الانتخاب المباشر- ويقوم هذا المجلس باختيار أحد أعضائه كمسئول أعلى (رئيس) للبلاد، وبالتالي فمن المؤكد أن أبناء القذافي وأقرب أعوانه سيكونون من أبرز أعضاء هذا المجلس القيادي المقترح في مسوّدة الدستور التي وضعتها لجنة مكلفة من العقيد وابنه سيف، ولا علم للشعب الليبي بها وهي آلية خاطئة ومشوهة مقارنة بآليات وضع الدساتير التي تعارف عليها العالمquot;.
أين المعارضة ؟
طُرح السؤال على محدثينا فكانت الإجابات متشابهة إلى حدّ ما، فالسيد القماطي يقول :quot;لابد من التأكيد على أن النظام الليبي كان دائما شرسا في تعامله مع معارضيه من خلال تصفيتهم وسحقهم بكل الوسائل العنفية المتعارف عليها وهذا الأسلوب موثق وشهدت له أكبر عواصم العالم، غير أنه انتهج في السنوات الأخيرة أساليب مختلفة منها تحييد واستمالة بعض المعارضين بحجج المشاركة في عملية إصلاح داخلي. ولكن هذا الإصلاح غير جدي ولم يحقق أي تقدم ملموس لغياب الإرادة السياسية في الإصلاح. ومع ذلك نجح النظام الليبي في تحييد بعض المعارضين وإيجاد هوّة كبيرة بينهم وبين بقية تيارات المعارضة وفق أسلوب أمني معروف يستخدمه أكثر من نظام سياسي عربي مع معارضيه.

مشكلة بقية المعارضة الليبية في الخارج التي ترفض مشروع النظام الليبي للإصلاح -لأسباب تتعلق بعدم جدية ومصداقية هذا الإصلاح الذي تبناه سيف الإسلام بتنسيق مع والده- أنها لا تطرح برنامج سياسي مقنع يتماشى مع التحولات الهائلة دوليا وإقليميا، بل أن خطابها لا زال يتسم بالعاطفية واستحضار الماضي دون التفكير بجدية في اتجاه المستقبل والاستعداد لمرحلة ما بعد القذافي. نداء صبري تردّ بسخرية بالقول إنّquot; المعارضة الليبية أو أي معارضة أخرى للبلدان العربية، قد تم حصارها على مواقع الانترنيت، بعد 11 سبتمبر، وبعد نجاح اجتماعات وزراء الداخلية العرب، زادهم quot; الله quot; توفيقا ونجاحا وانتصارا.

وبالنتيجة ، فإنّ ما تقوم به الدول الغربية اليوم ndash; حسب المتابعين الليبيين - هو البحث عن مصلحة اقتصادية في الجماهيرية ووجود فاعل ومؤثر فيها، يرصد تطور الأحداث قبيل رحيل القذافي ، ربما لضمان تحول سياسي سلس يحافظ على مصالح الدول الكبرى اقتصاديا و جيوسياسيّا. و تضلّ سياسة الولايات المتحدة الأميركية وعلاقاتها مع ليبيا والعالم العالم العربي من هندسة البنتاغون ودوائر الأمن القومي الأميركي والمصالح النفطية والاقتصادية والحيوية للولايات المتحدة.