ريما زهار من بيروت: اقفلت الحدود امام الشاحنات اللبنانية للعبور الى سورية وبدت في حدودها مع جديدة يابوس وكأنها أمام مسلسل آخر للتعذيب والقهر يدفعه اللبناني ثمنًا لجلاء الوصاية السورية عنه، وحتى لو طمأن المسؤولون بان قضية الحدود بين لبنان وسورية ستفتح امام الشاحنات التي تنقل المواد الغذائية الى سورية وعبرها الى البلدان العربية الا ان نحو 400 شاحنة تنتظر بين الحدود اللبنانية – السورية الافراج عنها في خط طويل متواصل يمتد على كيلومترات.
السائقون يقضون أوقاتهم بالاحاديث والتسامر في ما بينهم وبات شرب الشاي تحت الاشجار أو الاهتمام بشاحناتهم من اولوياتهم في انتظار الفرج.
يقول أحد السائقين " نقلت سيارات سياحية لمصطافين سعوديين قدموا الى لبنان لقضاء فترة الصيف وعندما أفرغت حمولتي وحاولت العودة فوجئت بإقفال الحدود، فهل يريدون الانتقام مني ومن أمثالي"؟
سائق سوري رفض ذكر اسمه قال: اني أنقل مخللات من لبنان الى السعودية في شاحنة مبردة وتكاد مادة المازوت ان تنفذ وعلي تأمينها من لبنان وإلا سوف تتعرض البضاعة للتلف.
أحد السائقين ينقل البرادات والثلاجات من لبنان الى السعودية وهو منذ يوم الخميس حتى الآن ينتظر على الحدود اللبنانية السورية بعيدا عن عائلته وأولاده ينام في شاحنته بانتظار الفرج.


دوافع تاريخية
أياً كانت الدواعي الأمنية القائمة خلف أزمة الحدود السورية ـــ اللبنانية المستجدة منذ أيام، وأياً كانت جدية المخاوف التي تقدمها دمشق من احتمال تسلل ارهابيين بين البلدين، كسبب للتشدد على تلك الحدود، فالثابت ان مثل هذه الأزمة لا يمكن عزلها عن السياسة والعلاقات السياسية بين لبنان وسورية، اما في خلفياتها واما في النتائج التي يمكن أن تؤدي اليها. تلك هي على الأقل أمثولة الماضي وعبرة التجارب السابقة في أزمات الحدود المتعاقبة منذ نشوء الدولتين فماذا عن هذه العبر والأمثولات.
شير المراقبون الى أنه بالطبع ليست المرة الأولى التي تشهد الحدود اللبنانية ـــ السورية أزمة عبور وانتقال أشخاص وبضائع، لا بل أن استعراض كرونولوجيا العلاقات اللبنانية ـــ السورية يظهر أن الفترات الهادئة فيها كانت قليلة، أو حتى نادرة. بين مشكلات الترسيم والاعتداءات ومشاكل الترانزيت والتجارة البينية وتبادل المنتجات وانتقال العمال والأموال وأزمات الادارات المعنية والرسوم والجمارك... بين كل هذه لم تعرف الحدود الدولية اللبنانية ـــ السورية "العلاقات المميزة"، الا بعدما تحولت مقولة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد عن "الشعب الواحد في دولتين"، الى مقولة "الشعبين في دولة واحدة" وذلك بعد دخول الجيش السوري الى لبنان في العام 1976. بعدها ساد الهدوء الممسوك، أما قبلها فكان الأمر عرضة للتوترات الدائمة، والتي بلغت حد اقفال الحدود في حقبات عدة، ارتبطت كل منها بوضعية سياسية معبرة وحافلة بالمعاني والدلالات والنتائج.


الأزمة الأولى 1949
أولى أزمات اقفال الحدود بين لبنان وسورية تعود الى ربيع العام 1949، ودامت في تقلباتها نحو عام كامل. فالمعروف أن لبنان وسورية بعد نشوئهما اثر زوال الانتداب الفرنسي، ورثا عن زمن "المفوض السامي" مصالح اقتصادية وجمركية مشتركة. كما أنهما ورثا أيضاً نظامين سياسيين ودستورين متشابهين، في حدود دنيا من الديمقراطية الناشئة، مع طبقتين حاكمتين مكونتين من بورجوازيتي البلدين.
لكن اللافت أن الأسباب الاقتصادية والنظامية لاقفال الحدود، لم تعد وحدها سيدة التبريرات مع عهود الانقلابات، اذ سرعان ما انضمت اليها الذرائع السياسية ــ الأمنية المعلنة، مثل الاحتجاج على حملات الصحف اللبنانية على السلطات السورية، كما عند اقفال الحدود في 18 كانون الثاني 1953 وفي 6 شباط 1954 وسواهما من المرات.
الا أن الأزمة الحدودية الثابتة الكبرى بين البلدين قامت بعد انقلاب البعث المشار اليه في 8 آذار 1963. فبعد أسبوع، في 15 آذار، أقفلت السلطة الانقلابية الجديدة في دمشق مرافق الحدود، لتفتح بذلك سلسلة جديدة من تقلبات الاغلاق والتسهيل، استمرت بدورها فترة زمنية طويلة. كما أن الأمر تطور هذه المرة من المواجهة الاقتصادية السياسية والاعلامية، الى المواجهات الأمنية والعسكرية. ففي 25 أيلول 1963 قامت قوات سورية بتنفيذ هجوم على قرية الطفيل اللبنانية، تزامن مع اجراء الانتخابات البلدية فيها، وقيل ان الأمر جاء على خلفية تورط الأجهزة الأمنية اللبنانية في تهريب عبد الحميد السراج واحتضان طلعت صدقي وغيرهما من رموز الحقبة الناصرية، وذلك بعد انهيار الوحدة المصرية ـــ السورية. وبعدها في 19 تشرين الأول 1963 أيضاً هاجمت القوات السورية أيضاً مراكز رسمية لبنانية في عنجر، ما أدى الى مقتل أربعة جنود لبنانيين. وقامت لجنة مشتركة يومها للتحقيق في الحادث، كان أعضاؤها اللبنانيون جان نجيم (قائد الجيش لاحقاً) وغابي لحود والقاضي منيف عويدات. واللافت أيضاً أن هذه التوترات الحدودية تزامنت أيضاً مع رفض وزير الداخلية اللبنانية كمال جنبلاط اعطاء ترخيص لحزب "البعث" في لبنان.


مرحلة ما بعد 66
واستمرت لعبة الحدود هذه طيلة عقد كامل، مع فترات هدوء نسبي، كما فترات تصعيد مفاجئ، كما حصل مع الانقلاب على الرئيس السوري أمين الحافظ في شباط 1966، يوم أقفلت الحدود مجدداً، وطالبت دمشق بالافراج عن البعثيين المعتقلين في لبنان، وبينهم عبد المجيد الرافعي ونقولا الفرزلي وجان عبيد...
وعرفت هذه المرحلة ثلاث محطات اقفال حدودية بارزة، في 30 تموز 1969 على عهد صلاح جديد ويوسف زعني في سورية، بسبب الخلاف على الرسوم الجمركية. وفي 23 تشرين الأول 1969، مع جديد وزعني أيضاً، اثر اشتباكات الجيش اللبناني والمسلحين الفلسطينيين في بيروت ودعماً للفلسطينيين. وفي آب 1971، مع الرئيس حافظ الأسد، يوم أقفلت طريق درعا ـــ الرمثا، في تدبير قيل انه جزء من المواجهة السورية ـــ الأردنية.


الأزمة الثالثة
وبعد عقد كامل على الحكم البعثي في سورية شهدت الحدود أزمتها الكبرى الثالثة، يوم أعلنت وزارة الداخلية السورية في 8 أيار 1973 قراراً باقفال جميع المرافق الحدودية بين لبنان وسورية، "حتى اشعار آخر". في ذلك الوقت كان التوتر اللبناني الفلسطيني قد بلغ ذروته، مع تسجيل هجمات مباشرة، أو بواسطة جيش التحرير الفلسطيني على العبودية في 6 أيار، وعلى العريضة وقاعدة القليعات في العاشر منه.
استمرت أزمة الاقفال هذه 3 أشهر وتسعة أيام كاملة، قبل أن تنتهي بقرار سوري بفتح المرافق في 17 آب 1973. وطيلة هذه الفترة طغت على السطح كل الخلفيات السورية. ففي محطات التفاوض بين الحكومتين، كان حديث واضح عن شروط سورية محضة, فكانت مطالب متعلقة بتسهيل حركة العمال السوريين في لبنان، وانهاء حركة المعارضة السورية في بيروت وضبط الصحافة اللبنانية ومطالبة بتمركز "لواء اليرموك" في نقاط لبنانية، وحتى المطالبة باطلاق سراح علي نادي المتهم بتفجير مطابع مجلة "الحوادث".
والقارئ لتطور الأحداث يدرك تماماً أن هذه المطالب شكلت خط ربط منطقياً واضحاً، جمع محطات السلوك السياسي السوري حيال لبنان، منذ العام 1963 وحتى اندلاع الحروب العسكرية عام 1975 ودخول الجيش السوري. بعدها استتب الهدوء على الحدود...
واليوم، وبعد جلاء الجيش السوري عن لبنان تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي 1559، تعود أزمة الحدود اللبنانية السورية، من زاوية التشدد في تفتيش الشاحنات العابرة والحرص على امساك الوضع الأمني السوري الداخلي، فهل تنجح السلطة اللبنانية الجديدة في معالجة الوضع بشكل حاسم يحول دون عودة عقارب الساعة نصف قرن الى الوراء؟ أم أن الأمر يقتضي عودة التشابه الى النظامين اللبناني والسوري، ما يسمح بالعودة الى ما قبل أولى الأزمات التي تلت انقلاب حسني الزعيم، من دون الوقوع طبعاً في معادلة: اما أزمات الاقفال، واما حلول الانفتاح على غرار حقبة 1975 ـــ 2005.

[email protected]