محمد الأمين من لاهاي: بعد انتصار الثورة الايرانية طرأت على الحوزة العلمية والمدارس الدينية في مدينة قم جملة من التغيرات المهمة وفي مقدمتها،الانتقال من ثقافة الوعظ والخطابة و الأسلوب الشفوي الى الثقافة المدونة التي تخاطب الجيل الواعي في المجتمع الايراني.وقد فرض هذا التحول الخروج من الاساليب التقليدية التي اهتمت بمخاطبة جميع الشرائح وتوجيه افكارها نحو جيل من خريجي الجامعات والمعاهد العلمية.وقد كان للمجلات والدوريات الثقافية حصة الأسد في هذا الخطاب الجديد.يقول محمد تقي فاضل في هذا الصدد:
المجلة الاولى التي صدرت عن الحوزة الدينية بعد انتصار الثورة هي مجلة "حوزة"ثم تبعتها مجموعة من الاصدارات من بینها المجلات التالية: نقد ونظر،اينه بجوهش نامه مفيد،حكومت اسلامي.ومجلات اخرى امتازت بمراعاة المعايير الحديثة في مجال الصحافة وسعت الى معالجة الاشكاليات المعاصرة من وجهات نظر دينية وفقهية علاوة على اهتمام ملحوظ بالمباحث الكلامية ذات الصلة باللامور الحديثة.
ومن هذا المنظور يمكن اعتبار قسم الاعلام هو الاكثر تجددا في الحوزات الدينية وقد تم ادارته من قبل الشبيبة المتنورة الذين يمتازون بوعي متقدم على من سبقهم في مجال التبليغ.ويمكن القول ان هذه الاصدارات ظلت بعيدة عن اهتمام الرموز القديمة التي نشطت فيما مضى في حقل التبليغ الديني.ان اغلب هذه المجلات يصدر عن مراكز البحوث الضخمة والتي يفوق عددها 185 مركزا.يقول عبايي خراساني وهو من الناشطين في مجال الصحافة الدينية:
ثمة حوالي150مجلة تصدر من مدينة قم وتتمحور مواضيعها في مجال علم الكلام والحكومة الاسلامية والمسائل الفقهية المستحدثة ومواضيع اخرى مرتبطة بالعلوم الدينية.و نهدف ان نتابع هذا النشاط من خلال خطط مدروسة تركز على النقاط المهمة والحساسة..
لقد واجهت المدارس الدينية بعد الثورة الايرانية اشكالات لم تألفها سابقا ولم تكن من صلب اهتماماتها وصارت مطالبة بتقديم رؤية مقنعة لشريحة واعية وواسعة من المجتمع الايراني وهي شريحة الجيل المتعلم.ومن المواضيع الاكثر اثارة واهمية في هذا الصدد نشير الى تاريخ الفكر الحديث في ايران وهو الموضوع الذي كان محور عشرات الاصدارات كما خصصت له العديد من الملفات.محمد تقي فاضل:
تمة محاور رئيسية كان لابد من اغنائها بالدراسات والبحوث وفي مقدمتها المسائل السياسية قبل الثورة وعلى رأسها ثورة الدستور أو المشروطة(1906)ونظام الحكم الجمهوري والمجتمع المدني والحريات الاساسية وسيادة الشعب.وهي محاور لازالت تواجه رفض تيار متشدد في داخل الحوزة.من جهة اخرى هناك تيار متنور ومنفتح على العالم المعاصر يصر على أهمية وضرورةمناقشة ودراسة هذه المفاهيم.وباختصار نحن ازاء محورين رئيسيين وهما محور القضايا السياسية ومحور المباحث الكلامية.عن هذين المحورين تدور اغلب اصدارات الحوزة.اي ان الصحافة الحوزوية تسعى لتقديم وجهة نظرها عن الحدث السياسي من جهة وتحاول ان تطرح رؤيتها فيما يخص المسائل الاعتقادية.

من الشبهات الى المعرفة
الا ان معالجة القضايا العقائدية الجديدة تتطلب مناهج جديدة الامر الذي دفع بالعديد من محرري هذه الاصدارات لى مقاطعة الاساليب التقليدية وعلى خلاف التيار السلفي الذي كان يرى في المسائل الجديدة المرتبطة بموضوع الايمان شبهات يجب الابتعاد عنها،منح الجيل الجديد من رجال الدين المتنورين الاعتبار لجميع الاسئلة الجديدة المطروحة في المجال العقائدي واعتبروها ضربا من ضروب المعرفة لابد الخوض فيه.


يقول الباحث محمد مهدي: من النقاط المهمة في هذه المجلات ان نظرتها خلافا للجيل القديم لاتصدر من موقف سلبي للحداثة.وقد نأت عن حقل الالاهيات ولم تعد تنظر الى القضايا العصرية من منطلق الشبهات.فمجلة نقد ونظر على سبيل المثال تولي اهمية فائقة للقضايا الساخنة في مجال الفلسفة والاخلاق والسياسة والعلوم الاجتماعية.كما تسعى الى تقديم تصور دقيق وشامل للمواضيع الاشكالية وسبل معالجتها.

ربيع الكتاب الديني
لاينحصر البعد الاعلامي في الحوزة الدينية باصدار المجلات والصحف وانما يشمل عالم الكتاب، يقول محمد اسفندياري:
لقد سجّل انتاج الكتاب ارقاما عالية ونموا لافت للانتباه في العقدين الاخيرين.لقد تم تنقيح العديد من المؤلفات القديمة وتنقيحها وفق رؤية علمية وموضوعية،كما تمت عملية فهرسة المخطوطات الموجودة في العديد من المكتبات اضافة الى اعداد معاجم مختلفة وانسيكلوبيديات ضخمة.كما وظّفت الحوزة التكنولوجيا الرقمية و انجزت كمّ ا هائلا من الاقراص المدمجة وخزانات المعلومات.يضاف الى ذلك اصدار عشرات المجلات منها المخصصة للطفل الايراني واخرى تخاطب المرأة الايرانية.ان النهضة المعلوماتية في الحوزة –الكلام لاسفندياري- هي من نتائج النهضة الثقافية للمدارس الدينية قبل الثورة الايرانية،والتي اكتسحت الوسط الحوزوي عبر اصدارات في غاية الاهمية نظرا لاهتمامها بالخطاب المتنور المنفتح ومن هذه المجلات نذكر نداء البهجة"بيام شادي"ومكتب الاسلام والهادي ومعارف جعفري.

دور النشر الايرانية والسوق العراقية
يعيب الصحف محمد مشكل كشا على تلك النخبة من رجال الدين الشيعة العراقيين المتواجدين في ايران بسبب عدم اسهامها في تحديث المكتبة الدينية في العراق ورفدها بنتاج التيار التجديدي في الحوزة الايرانية. اذ انها بقيت تابعة للخط السلفي في حوزة قم وكان من الجدير بها ان لاتغرق السوق العراقية بالكتب ذات المضامين الخرافية والقصص الخيالية خصوصا وانها خرجت مؤخرا من فترة هي الاكثر قمعا في تاريخها فمازالت جرائم النظام العراقي ماثلة للعيان وماترتب عليها من خنق اي تيار تجديدي في الحوزة ال يرى ان هناك بونا شاسعا بين مضامين الكتب الدينية الصادرة في الحوزة الدينية في قم ونظيرتها في النجف. يقول محمد مشكل گشا ::
"بعد سقوط نظام صدام حسين عاشت دور النشر الايرانية مرحلة ذهبية في تاريخها اذ تم خلال أشهر طباعة مئات الكتب الدينية وارسالها الى العراق واذا اجرينا مراجعة سريعة لعناوينها لن نعثر على عنوان واحد يرتبط بالبحوث العميقة التي ألفها الخط المتجدد في حوزة قم ذلك لان القيمين على حركة الكتاب الديني في العراق ينطلقون من حسابات الربح والخسارة ويروجون لكتب لاتولي أدنى اهتمام بالوعي العصري.انهم من التيارالسلفي الذي يجهل أبسط أبجديات ثورة الدستور في ايران وثورة العشرين في العراق باعتبارهما اكبر تجربتين سياسيتين خاضها الشيعة في القرن العشرين وفاقد الشئ لايعطيه حسب التعبير الرائج في الوسط الحوزوي.
اثناء رحلتي الاخيرة الى مدينة قم ونظرا لرخص أسعار الطباعة في ايران بالمقارنة مع الدول الاوربية كنت جالسا في مكتب ناشر ايراني لمناقشة اصدار مختارات من الشعر الفارسي باللغة العربية وهو اصدار نشرنسخته الالكترونية مشكورا الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي في مكتبة ايلاف وكان هناك رجل دين شاب يعتمر العمامة السوداء تبين لي انه من الزبائن المهمين لهذا الناشر وقد استفسرت منه عن نوعية الكتب التي يتم طباعتها في ايران ويتم شحنها الى العراق وقد دهشت حقا من كونها تنحصر بالجانب الروحي المستند على الاحلام والكرامات والأدعية وكل ما ليس له علاقة بالحياة اليومية.قصص رعب بغطاء معنوي مثل عذاب القبر وقسوة البرزخ والعقوبة وحكايات الجن الصالح والجن الطالح، يروج لها رجال دين شيعة انحدروا من شريحة الروضة خونية الناشطين في الريف العراقي خصوصا في الجنوب وهي الشريحة التي مازالت مهيمنة في الاوساط الحوزوية رغم جهود علماء دين متنورين في فضح دجلها واساليبها الماكرة في تشويه القضايا التاريخية من اجل كسب المال.


النجاح والاخفاق في الصحافة الحوزوية
عودة الى الشأن الايراني هل يمكن اعتبار هذا الكم الهائل من الاصدارات دليلا على نجاح القيمين على النشاط الثقافي والاعلامي في الحوزة الدينية في مخاطبة القارئ الايراني؟. يرى رحيم رئوفت احد اعضاء هيئة تحرير مجلة نقد ونظر ان اقبال القارئ الايراني على اصدرات الحوزة ليس بالمستوى المطلوب ولايتناسب مع حجم الجهود المبذولة فيهذا المضمار:
ثمة اصدارات لاتحظي باي اهتمام من قبل القارئ الايراني لانها تتشابه فيما بينها من حيث المواد المنشورة فيها وقد يصعب احيانا التمييز بينها.ليس هناك اي مبرر لبعض هذه المجلات سوى الحصول على الدعم المالي وهي مقرؤة في النطاق الحوزوي فقط وأثبتت فشلها في اقامة اواصر مع شرائح اخرى من المجتمع الايراني بشكل عام والوسط الجامعي وفروعه واقسامه ذات الصلة بالعلوم الانسانية والدراسات الاجتماعية على وجه التحديد.

اما محمد اسفندياري الذي اشرف على العديد من اصدارات الحوزة فيرى سببا اخر في اخفاق هذه الاصداراتيتمثل بجهل بعض محرري هذه المجلات بقواعد العمل الصحفي واساسيا النشاطات الاعلامي : المادة الجيدة لاتكفي لاقناع القارئ وانما يجب صبها في صياغة صحفية مقبولة.ان الكثير من هذه الاصدارات لايخضع للمعايير الصحفية.
اما الباحث محمد مهدي فيتطرق الى مشكلة اخرى اعاقت الاصدارات الحوزوية"في بدايات التسعينات شهد اصدارات الحوزة الدينية في قم تطورا ملحوظا من ناحية العدد ومضامين المواد المنشورة فيها اذ شرعت في التركيز على البحوث النظرية العميقة والانفتاح على التيارات الفكرية المعاصرة.ولم يستمر الوضع على هذه الوتيرة فقد تم اضعاف هذه الاصدرات وقد كان لها حصة من الضربات العنيفة التي وجهها القضاء الايراني للحركة الصحفية.لقد تم حظر اصدار بعضها من جهة.ومن ناحية اخرى لم يعد الكتاب قادرين على الخوض في البحوث النظرية بنفس الزخم السابق خوفا من تهمة التشكيك بالاصول الاسلامية والخروج عن جادة الاسلام!

الحاسوب ومواقع المراجع
ورغم العوائق المفروضة على بعض الصحف والمجلات الحوزوية الا أن اسهام التقنية الممعلوماتية كان كبيرا في ازالة الحواجز واخذ الحاسوب مكانة مركزية في النشاط الاعلامي.يقول ايت الله بجنوردي:
يمتلك اغلب المحققين في مدينة قم اجهزة الكامبيوتر الموصولة بشبكة الانترنيت ممايتيح لهم العمل في بيوتهم
والاستعانة بالمصادر الموجودة على الشبكة.لقد ساهم الكامبيوتر في تسهيل المهمات.ولم يعد الباحثون مضطرين لمراجعة المكتبات فقد تم تخزينها في اقراص مدمّجة.والعمل الذي كان يستغرق ساعات من البحث والجهد صار بالامكان انجازه في دقائق معدودة.
لقد انتشرت التقنيات الالكترونية في الحوزات الدينية الى حد نلاحظ ان كبار علماء الشيعة قد أسسوا مواقع خاصة بهم كموقع ايت الله السيستاني وموقع ايت الله صانعي وموقع ايت الله منتظري وموقع ايت الله محمدصادق الشيرازي.
وبالرغم من الانتشار الكبير لهذه التقنيات الجديدة وتأسيس المكتبات الافتراضية المثمرة في مجالات البحث والتحقيق لكن الباحث الايراني جويا جهان يشير الى اشكالية مهمة تتلخص بالملاحظة التالية:
من الممكن ان يحتوي قرص مدمج على مئات بل آلاف الكتب في علم الاصول بما فيها مخطوطات لم تر الطباعة الورقية.وبمقدور الباحثين الحصول على جميع المصادر المتوفرة عن موضوع معين من خلال ماكنات البحث،لكن العملية الأكثر أهمية والتي نأمل أن تضعها المؤسسات المعنية نصب أعينها هي تصنيف هذا الكم الكبير من المعطيات والمعلومات وتشذيبها ومن ثم تبويبها واخضاعها لاعادة تقييم صارمة وتحليل دقيق.ولاشك ان عملية بهذا المستوى تحتاج الى برمجة دقيقة وخطة عمل مدروسة.

المكتبات المعتبرة
تمتاز مكتبات الحوزات الدينية في قم بجملة من المواصفات التي تجعلها بمصاف المكتبات العالمية وتحتوي على مئات الكتب القيمة في مجال العلوم الدينية والعلوم العصرية،ويواظب المسؤلون على هذه المكتبات على اقتناء الكتب الحديثة من ايران وبلدان اخرى.مما توفر فرصة جيدة للنخبة الواعية في الحوزة للاطلاع عليها واحيانا قراءة الكتب الممنوعة يقول محمد مهدي خلجي:
ان مكتبات الحوزات الدينية في قم هي من اكبر المكتبات وأكثرها غنى وتنوعا وعصرية في ايران اذ تتوفر على مجاميع ضخمة من البحوث القرآآنية والدراسات المتعلقة بالاديان -خصوصا الديانة المسيحية - كذلك في مجال فلسفة الدين وعلم الاخلاق، يضاف اليها مؤلفات عن الى الادب العربي المعاصر والنقد الادبي ونتاجات المستشرقين عن تاريخ الاسلام ومواضيع اخرى غير قليلة الأهمية.كماتضم هذه المكتبات قسمين كبيرين للكتب العر بية والانجليزية.وغالبا مايكون الاشتراك فيها مجانا وعاما. تحتوي هذه المكتبات ايضا على الكتب التي يصطلح عليها بكتب الضلال من اجل الرد على الشبهات الواردة فيها.
من المكتبات المهمة في مدينة قم يمكن الاشارة الى مكتبة السيد الخميني ومكتبات السيد السيستاني ىومكتبة ايت الله مرعشي نجفي التي تحظى بشهرة كبيرة في الشرق الاوسط وتتوفرعلى مجموعة كبيرة من الكتب االفلسفية والادبية الممنوعة والمنشورة قبل الثورة الايرانية.
يقدّر عبد العظيم موسوي عدد المؤسسات ومراكز البحث المنتجة للكتاب في مدينة قم باكثر من مائة مؤسسة تصرف مبالغ طائلة في شراء الكتب العربية والانجليزية والفرنسية.ولكن المشكلة تكمن في وجود الكم الهائل من الكتب الانجليزية حيث لايتم الاستفادة منها بالمستوى المطلوب بسبب ضعف انتشار اللغة الانجليزية في الحوزات الدينية.

نعم للتحديث، لا للحداثة
لاشك أن الانفتاح على افاق جديدة في الفكر والعلوم مسألة في غاية الأهمية لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو الى أي مدى تستطيع التقنيات الحديثة في نقل حوزات العلوم الدينية في ايران الى آفاق العالم المعاصر؟
يلخّص صالح عبد اللهي اجابته على النحو التالي:
رغم توظيف التقنيات الحديثة وانجازات الثورة الالكترونية، مع ذلك يمكن القول ان هذه الظاهرة لم تتجذّر بالمستوى المطلوب وتم تجريدها من مناخها الثقافي فقد تحول جهاز الحاسوب الى وسيلة لجمع وإعداد الأحاديث والنصوص الدينية القديمة.اما اللغة الانجليزية المرافقة لهذه التقنية فقد توقفت عند مستوى الاصطلاحات العلمية ولم تتحول اللغة الى عنصر فاعل في تجديد الوسط الحوزوي كأن يقوم طالب العلوم الديني بمطالعة المؤلفات الفلسفية المعاصرة والدراسات والبحوث الفكرية العميقة باللغة الانجليزية و المتوفرة عبر التقنيات الالكترونية ثم يؤسس مكانة لها في الفضاء الثقافي الحوزوي.
ان التقنيات الحديثة بشقيها التكنولوجي والألكتروني ساهمت في تجميل الوجه التقليدي للحوزات الدينية والتي يبدو أنها مازالت مصرة على شعار: نعم للتحديث،لا للحداثة.