خسرو علي أكبر: منذ تشييد مدينة غزالي السينمائية الواقعة على جادة كرج والتي شهدت اخراج مسلسل العندليب الشهير توافد على هذه المدينة السينمائية عشرات المخرجيين السينمائين نظرا لكونها أعادت أبرز ملامح طهران القديمة.
ولاتستقيم صورة طهران القديمة من دون گراند هتل ومتاجر لاله زار.وهنا يتساءل الصحافي الايراني حميد رضا حسيني ان كان للمخرجين السينمائيين الذين يصورون الكثير من مشاهد أفلامهم في مدينة غزالي المحاكية لطهران في القرن التاسع عشر معرفة وافية بالخارطة الحقيقية لعاصمة القاجاريين؟
يرى بعض المؤرخين أن الجذر التاريخي لطهران يعود الى شيت بن آدم أب البشرية ويدعمون وجهة نظرهم بوجود مقابر quot;قيطرية quot;والتي يقدر علماء الآثار تاريخها الى الألفية الثانية قبل الميلاد وهي مقابر تدل أن هذه البقعة شهدت حياة حضرية. ومن الكتب التاريخية التي ذكرت طهران بتفصيل واف يشار إلى كتاب مسالك الممالك للاستخري وكتاب فارسنامة لابن البلخي و معجم البلدان لياقوت الحموي ونزهة القلوب لحمد الله المستوفي
أما.الباحث والمؤرخ الايراني الدكتور تكميل همايون ( وهو مؤلف أفضل موسوعة درست أوضاع هذه المدينة من جميع النواحي الجغرافية والفنية والتاريخية والسياسية )فيرى أن التاريخ الحقيقي لطهران يبدأ مع شاه تهماسب الصفوي1414_1576 للهجرة حيث إستقر فيها فترة قليلة وكانت قرية صغيرة تتسم بالمناظر الخلابة والمناخ المعتدل وقد راقت له بساتينها وسهولها فكرر رحلاته اليها للاستراحة والصيد واستقر فيها مرات عديدة ثم أمر بتشييد 114 برجا على عدد سور القرآن وتوزيعا على الجهات الأربع مع مراعاة الفاصلة المكانية الموحدة بين برج وآخر وجعل مجمل المساحة التي تتوزّع فيها الابراج تعادل مساحة أصفهان عاصمة الصفويين أنذاك.
وقد إكتسبت هذه المدينة موقعا استراتيجيا بين المدن الايرانية الكبيرة خصوصا بعد الاحداث السياسية الكبيرة التي شهدتها بلاد فارس كهجوم الأفاغنة وسقوط السلالات الملكية الصفوية والزندية والأفشارية.لكن النقلة الكبيرة التي شهدتها طهران تمثلت باعلانها عاصمة البلاد وهو قرار إتخذه مؤسس السلالة القاجارية آغامحمد خان قاجار عام 1796.ولم يبد آغا محمد خان اهتماما ملحوظا بالجانب العمراني للمدينة كما لم تسمح له الفترة القصيرة التي حكم بها البلاد على إحداث تطور في هذا المجال.لكن مع تربع خليفته المباشر فتح علي شاه(1797-1834) عل العرش شهدت تهران إتساعا كبيرا وحركة عمرانية ملحوظة.ولابد من الاشارة ان اللغة العربية كانت هي اللغة الأولى المتداولة في البلاط الملكي وبين النخب الايرانية في العهد القاجاري وهذا ما لايخلو من دلالة في تاريخ المدينة حيث أسماء الأحياء والشوارع والأزقة بالاضافة الى أسماء المحلات والشركات والادارات.وتفاصيل اخرى تقع في صميم مشهد المدينة.
وقد تمايزت التطورات التي شهدتها طهران جذريا عن عواصم بلاد فارس كأصفهان وشيراز.فقد واكبت المدينة التحولات الكبرى التي شهدتها المدن الغربية وبدت تتأثر بها.وهي تحولات تركت آثارا عميقة على الثقافة التقليدية للمجتمع الايراني بشكل عام.فقد تم تأسيس مدرسة دار الفنون كأول مدرسة للعلوم تعتمد المناهج الغربية وشهدت طهران صدور أول الصحف الايرانية وكانت مقر الرحلات من والى اوربا ونمو التجارة الداخلية والخارجية واستقرار الأمن وهي مؤثرات لم تخل من جانب سلبي كإغفال معطيات التراث المعماري.
يصف أحد الرحالة الاوربيين مدينة طهران في العهد القاجاري على النحو التالي:
quot;طهران مدينة ولدت في الشرق.لكنها تكتسي الآن حلة جديدة تجعلها شبيهة بأحياء ويست اند اللندنية.لقد استيقظت طهران الاوربية.واذا ما لاحظنا بعض الفروق بين طهران ذات الطابع الشرقي وطهران ذات الطابع الغربي فسوف يتعين علينا ان نقول ان طهران مدينة في طريقها نحو التأورب ولكن على سرير شرقيquot;.
وقد واصلت المدينة اتساعها في العهد القاجاري باضطراد كبير.ويرى الدكتور الدكتور تكميل همايون مؤلف موسوعة التاريخ الثقافي والاجتماعي لمدينة طهران.ان الجانب المعماري كان متاثرا في بداية المرحلة القاجارية بالمدارس المعمارية الايرانية القديمة كالمدرسة القزوينية والمدرسة الاصفهانية والمدرسة التبريزية،ولكن بسبب استيعاب طهران لموجات كبيرة من الوافدين من المدن الاخرى اتسمت المدينة بالخصائص العمرانية للمدن الايرانية الاخرى..وفي فترة حكم ناصر الدين شاه لم تستطع المدينة وبسبب نسيجها القديم تلبية الظروف والمقتضيات الجديدة فتضاعفت المشاريع العمرانية المقلدة للأبنية الاوربية.ولم يبلغ المظهر العام للمدينة حتى الحرب العالمية الثانية مظهرا ناشزا فقد كان تجاور الأطوار التقليدية بالطرائق الحديثة في البناء يضفي على المدينة جمالية خاصة.وهو ما يمكن أن نصفه بالتجاور الخلّاق الذي إبتدع مشاهد بصرية في غاية الروعة الجمال.ولايغفل الدكتور تكميل همايون المحاولات الأستنساخية الفاشلة والمثيرة للسخرية ويصفها قائلا:quot;في عهد ناصر الدين شاه 1847-1896م هيمن التقليد الأعمى على أذهان الكثير من المعمارين الايرانيين وقد تم وضع مخطط عمراني يهدف الى تغيير مسار النهر كي يشطر مركزالمدينة على غرار نهر السين quot;. وفي عهد ناصر الدين شاه أيضا أثمرت جهود الصدر الأعظم ميرزا تقي خان أمير كبير في أنشاء مدرسة دار الفنون وبازار أمير ومشاريع عمرانية اخرى.
كما شهدت الفترة ذاتها وضع أول مخطط هندسي للمدينة باشراف الجنرال الفرنسي موسيوكرشيش و المهندس الفرنسي بوهلر ومجموعة من المهندسين الايرانيين و تم توسيع مساحة المدينة لتضم اراض شاسعة وتم تطويقها لاحقا بخنادق وسدود وأخذت المدينة شكل المثمّن الأضلاع وأشتملت على 12 مدخلا.
مع انتهاء الحقبة القاجارية شهدت الحركة المعمارية في طهران تطورا كبيرا اذ أقدمت نخبة من المعمارين على صياغة توليفة ناجحة بين التراث المعماري والتأثيرات الحديثة وتمثلت ببناء دور وخانات الأعيان في ضواحي المدينة وهي أبنية تعد من النماذج الراقية كبناية شمس العمارة وقصر مسعودية ومسجد مدرسة سبهسالار ومبنى مجلس الشورى وقد تجلت انجازات فترة حكم رضا بهلوي بتشييد القصور الفخمة والمؤسسات الوطنية كمتحف التراث الوطني وقد تمازج فيها التراث المعماري السابق للغزو العربي والحداثة الاوربية.ويرى البعض ان الانفتاح على المدارس المعمارية الغربية اقتصر على جانب شكلاني لم يلامس الجوهر وقد انطلق القيمون على هذه الحركة من نزعتهم العسكرية التي أولت أهمية كبيرة للمدن والقضاء على الانماط التقليدية المعتمدة في الحقبة القاجارية.
فقد تم القضاء على تعريجات الدروب والشوارع وحلت محلها الشوارع العريضة وقد مارس محافظ مدينة طهران العميد كريم جمهري أساليب قاسية من اجل انجاح مخططه الرامي الى بناء الشوارع العريضة اذ كان يضع ليلا راية حمراء على الأبنية التي ينوي ازالتها ويصدر أوامره بامحائها صباحا و قبل ان يتمكّن أصحابها من تدارك الأمر. يقول المؤرخ حسين مكي في هذا الصددquot; ثمة أسباب عديدة في التشوهات التي طرأت على مدينة طهران منها نسيج المدينة في العهد القاجاري والاضرار التي لحقت بالمدينة لابسبب عملية تحديثها وانما بسبب اللاتناسق الذي شمل كل المدن الايرانيةquot;. عن هذا اللاتناسق الذي شوّه وجه المدينة الايرانية يقول الدكتور محمد علي كاتوزيان:
في الحقبة القاجارية كانت المدينة الايرانية تضم في جميع احيائها أفرادا من جميع شرائح المجتمع من مسؤلين كبار في الدولة الى جانب عوائل التجار والحرفيين والعمال والعوائل ذات الدخل المتوسط وهذا ما جعل التمايز في الأبنية جليا في الحي الواحد وان حافظت أغلب الابنية على المعمار التقليدي وهذه الحالة جعلت العلاقات الاجتماعية متواصلة بين جميع الطبقات والفئات وكانت دور الأثرياء مثلا تجاور دور المتسولين.لكن مع الحقبة البهلوية لم يستمر الحال على هذا المنوال.اذ أن المشاريع الحكومية خلقت تمايزا كبيرا بين طبقتين ومنحت الضباط والموظفين الكبار دورا سكنية في شمال العاصمة ومع مرور زمن قصير تحول شمال المدينة الى مركز لاستقطاب الأثرياء فقط.ومن هنا برزت ظاهرة المدينة المزدوجة:مدينة المشاريع العمرانية والخدماتية،شمالا،ومدينة لم يشملها التحديث العمراني،جنوبا.
ومحلة امامزادة يحيى هي خير مثال فقد كانت تضم دار رئيس وزراء ايران في فترة حكم محمدعليشاه ودار وثوق الدولة في فترة الثورة الدستورية ودار النائب البرلماني ورجل الدين المتنور سيد حسن مدرس ودار نصير الدولة وهو أول وزير للثقافة في عهد الأسرة البهلوية ولم تشملها النهضة العمرانية وهي اليوم من الأحياء الفقيرة التي يسكنها المهاجرون الأفغان.كما أغفلت عملية التحديث السوق الكبير لطهران quot;بازار طهرانquot;وقد إتسع ليتصل بشارع ناصر خسرو (حيث مدرسة دار الفنون)وقد تحوّل الى مركز للسوق السوداء أما محلة لاله زار التي كانت القلب الثقافي لمدينة طهران حيث أول قاعات المسارح ودور السينما فلم تعد بمثابة الشانزه ليزه كما كان يحلو للايرانيين وصفها.وانما تحولت الى بؤرة لبيع السلع الممنوعة.ان انهيار الأبنية في هذه الأحياء والحاق ماتبقى من المباني ذات المسحة الفنية والجمالية بمبان سريعة الانشاء وظاهرة الوظائف الكاذبة واستئجار الغرف للعمال الوافدين الذين لاتربطهم بالحياة الثقافية والاجتماعية في المدينة أية أواصر، أن هذه العوامل مجتمعة جعلت من هذه الأحياء بؤرة للجريمة وارتكاب الأعمال غير القانونية كالتهريب وتزوير العملات وجوازات السفر وبيع المخدرات.+
ومع ذلك يكون من الضحك ان يتبنى كاتب ايراني من خوزستان رأي قاصة كويتية عن طهران في موضوع نشرته صحيفة عربية لندنية إذ لاحقيقة لأسلمة العمارة في طهران لان المشاريع العمرانية الضخمة لايمكنها ان تحسم لصالح العمارة الاسلامية لسببين بسيطين:
أولا أن أغلبية القائمين على هذه المشاريع تتبنى التيارات المعمارية الحديثة،ثانيا أن البنايات والأبراج المشيدة على الطراز الاوربي لها مردود اقتصادي كبير لايمكن مقارنته بنموذج العمارة الاسلامية.واذا كان الكاتب يقصد بالعمارة الاسلامية المساجد والحسينيات حصرا فانها غالبا ما تشيد بتمويل شخصي من التجار أومن مجموعة من المتبرعين. وليس بتمويل حكومي. كما أن الموضوعية تتطلب الاشارة الى الانجازات التي حققتها ايران في بناء الجامعات والمعاهد الفنية والمراكز التعليمية في السنوات الاخيرة ولابد من الاشارة الى المشاريع العمرانية الضخمة التي شهدتها طهران بفضل جهود محافظها السابق غلامحسین كرباسجي وفي مقدمتها المراكز الثقافية الفخمة والتي تسمى ببيوت الثقافة ودورها الكبير في إشاعة
الثقافة والفنون الحديثة. ومن المشاريع الضخمة نشير الى مطار امام خميني الدولي الذي تم افتتاحه العام الماضي وتبلغ مساحته 15 كيلو متر مربع.ومترو طهران الذي يربط شرقها بغربها وشمالها بجنوبها ولكنه مع ذلك لم يخفف كثيرا من ظاهرة ازدحام المرور وهي الظاهرة المؤثرة سلبيا على الاقتصاد الايراني حيث يفقد المواطن الايراني ساعات من وقته خلف الشارات الحمراء..في هذا الصدد يكتب صحفي ايراني شاب من طهران:quot;حقا أنها معجزة كبيرة أن تتحول قرية تهران وفي غضون قرنين فقط الى أكبر مقبرة للسيارات في الشرق الاوسط، هذه التوابيت المعدنية التي لاتترك لنا فسحة للتأمل!quot;.
التعليقات