موسكو: تعرفت على الولايات المتحدة منذ حوالي العام 1991 حيث كنت أدرس النظم السياسية المقارنة والعلاقات الدولية وغيرها من المناهج بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة التي أتاحت لي دراسة النظام السياسي الأمريكي والتعرف على quot;مجتمع صنع السياسة الخارجية الأمريكيةquot;.
وأتاحت لي هذه الدراسة أن أكون رؤية متوازنة ومعتدلة عن هذه الدولة الكبرى وعن الشعب الأمريكي ورغم كوني إسلاميا وأنتمي فكريا إلى الإخوان المسلمين منذ المرحلة الجامعية فإنني لم أعتبر أن السياسة الداعمة لدولة الاحتلال في فلسطين تعد مبررا لرفض أي حوار شعبي أو رسمي مع الأمريكيين بل على العكس تماما يعد ضرورة لتحقيق العدل والتعارف والمصالح المشتركة.

علاقة مستمرة ومثمرة

بعبارة أخرى لم أشارك في نغمة العداء التي تغذيها ممارسات السياسة الخارجية الأمريكية ويستغلها النظام السياسي القائم في بلادي من أجل لفت الانتباه عن قضايا الإصلاح الملحة كما لم أشارك وفود الشباب من القرية المجاورة لقريتي في التسلل إلى الأرض الأمريكية عبر دول أخرى من أجل العمل فيها والحصول على الأموال الوفيرة لأن لي شرطين يصعب الجمع بينهما وهما الحصول على عمل آدمي وبطريقة مشروعة، وأن تكون أسرتي بجانبي هناك في بلاد الرفاهة والحريات التي تظل بحق (أرض الأحلام)!.

وبعد أحداث 11 سبتمبر توقعت أن الرئيس بوش سيحمل المسلمين المسئولية بعد أن يخرج من الملاجىء التي كان يتنقل فيها في الساعات اللاحقة على الكارثة ووافقت دون تردد في العمل فى إطار مشروع بحثي عن الولايات المتحدة وتم تكليفي بكتابة بحث عن التيارات غير اليمينية في المجتمع الأمريكي والتحولات الفكرية والسياسية لها ومدى قوتها في المجتمع مقارنة بالتيار اليميني المحافظ وإمكانيات التواصل معها من جانب قوى المجتمع المدني في بلادي.
وظلت علاقتي بquot;الولايات المتحدةquot; منذ بداية عقد التسعينيات ولمدة 15 عاما تالية تتراوح بين الاهتمام بممارسات السياسة الخارجية ودراسة النظام السياسي الأمريكي وتولدت عندي رهبة من أن يوما قد يأتي وأتعامل مع هؤلاء الأمريكيين الذين يعاملون المصريين في السفارة الأمريكية بطريقة غير لائقة وتقول عنهم دعايات الصحف الرسمية أنهم يمولون المجتمع المدني من أجل صنع عملاء وجواسيس لهم على أرضنا!.
ورغم كل هذه الأحاديث عن العنصرية والاختراق فإن قراءاتي وروايات بعض الزملاء الذين هاجروا وعاشوا في الولايات المتحدة فضلا عن ديني الذي يأمرني بالتعارف مع الناس والحكم بالعدل أكدوا لي أن هناك وجه آخر للحضارة الأمريكية لم أتعرف عليه بعد وهو وجه العلم والإيمان بالحريات وحقوق الإنسان.

وبدأت أتحسس ملامح هذا الوجه خلال عامي 2006 و2007 حيث شاركت في ورشتي عمل عن الإسلام والديمقراطية وحسم النزاع المدني سلميا قام بتنظيمهما في مصر مركزان للدراسات في الولايات المتحدة وكانت فرصة شائقة للحوار وتبادل وجهات النظر والتعلم مع أمريكيين مسلمين وغير مسلمين.
ثم سنحت فرصة نادرة لزيارة هذه البلاد والتعرف عليها بطريقة أكبر من خلال المشاركة في برنامج ممول من القسم التعليمي والثقافي في وزارة الخارجية الأمريكية ونظمته كلا من مؤسسة السلام الوطنية والاتحاد الإسلامي لأمريكا الشمالية تحت عنوان: quot;الدين والمجتمع ndash; حوار متبادلquot; ويهدف لدراسة تجربة المسلمين الأمريكيين في مجتمع متعدد الأعراق والأديان.

ورغم تحذير الكثيرين المؤمنين بنظرية المؤامرة بوجود أجندا خفية من وراء البرنامج وتغير نظرة البعض تجاهي بعد إصراري على المشاركة إلا أنني توكلت على الله (الغريب أن بعض الأمريكيين يعتبر هذه الكلمة دليل على الرغبة في الانتحار وأن الصلاة تعنى التخطيط لعمليات إرهابية!) وذهبت من أجل التعرف على تجربة المسلمين على أرض الواقع وكذلك من أجل التعلم والحوار مع المنظمات الدينية الأخرى.
وبقدر أنه لم تزعجني نظرة الارتياب من بعض الإسلاميين تجاهي بعد موافقتي على المشاركة في البرنامج لم أنزعج أيضا من مناورة ومراوغة الحبر اليهودي الذي قابلناه أو رغبة بعض أعضاء المؤسسات الدينية المسيحية في تحويل المسلمين عن دينهم أو حتى تنوع العرب والمسلمين في أمريكا بين تيارات اندماجية لحد الذوبان وتيارات رافضة للمشاركة السياسية وأغلبية صامتة تجري وراء لقمة عيشها ومنظمات تناضل من أجل الدفاع عن حقوق المواطنين العرب والمسلمين تعمل وسط ظروف ذاتية وموضوعية قاسية.ولعل السبب من وراء عدم انزعاجي أن أمريكا التي رأيتها رغم كل ذلك ورغم الحديث عن تزايد الاسلاموفوبيا ستظل المكان الملائم للممارسة المسلمين شعائر دينهم بحرية والنظام السياسي الأنسب للنضال من أجل الحصول على حقوقهم المدنية.
وهذا التفاؤل كان أحد الأسباب التي دفعتني للكتابة عن المسلمين الأمريكيين بعد عودتي إلى مصر .

ذكريات رائعة وغير رائعة أيضا!

ومن الذكريات الرائعة وغير الرائعة عن جولتي في الولايات المتحدة:
زرنا واشنطن العاصمة وأربع ولايات أخرى هي فيرجينيا وإلينوي، وإنديانا، وكنتاكي . وأول ما وقع عليه نظري في هذه البلاد هي الطبيعة الخلابة التي رزقها الله لأهل هذه البلاد، الله . كم هي جميلة حقا هذه المساحات الخضراء وهذا اللطف من كل من نقابله فيبتسم في وجوهنا، وكذلك احترام النظام والوقت لكن بصراحة تحيرني هذه الطيبة وهذا اللطف .


من مذكرات quot;إسلاميquot; زائر لأمريكا

هل لأنهم شعب منعزل وبعيد عن أحداث العالم رغم ثورة المعلومات؟! أم لأنهم رافهون ومتدينون؟ أم أن راحة البال تأتى من الأمرين معا؟!!
لم نتعلم في جولتنا الدراسية شيئا عن السياسة الأمريكية ولكن حاولت اغتنام الفرصة وأن أعرف أمورا من ذلك فعرفت أن معظم الشعب الأمريكي لا يعرف كثيرا عن السياسة الخارجية فسمعت أن العامة يقولون أننا نرسل جنودنا وأولادنا للدفاع عنكم فلماذا تقتلونهم؟ أما النخبة المتعلمة فتعترض على سياسات الرئيس بوش الخارجية وتريد بناء جسور معنا في العالم الإسلامي كما ترفض أحيانا ما يقوم به (مجتمع السياسة الخارجية) في واشنطن من تحيزات وممارسات.

ورغم ذلك فالجميع لديهم ثقة كبيرة جدا في النظام السياسي وأن توازن السلطات يؤدي على تصحيح أي أخطاء تقع داخله كما أن الرأي العام له نفس القدرة على التغيير في الانتخابات ولعل طبيعة النظام السياسي والفلسفة القائم عليها وتتمثل في المبادىء العزيمة التي تتصدر الدستور الأمريكي هي أحد مصادر قوة هذه الدولة رغم التناقضات الكبيرة بين مبادىء أمريكا الداخل وازدواجية أمريكا الخارج وهو الأمر الذي تساءلت عنه في بداية الجولة ولم أحصل على إجابة شافية عنه في نهايتها سوى في كلمات مثل: المصلحة، اللوبي، البرجماتية.

تعلمت الكثير عن التعليم والمراكز البحثية داخل الجامعات وتأكدت خلال جولتي داخل أربع جامعات أن التعليم يعد من الأسرار الأخرى لقوة هذه الدولة، وأخذت انطباعا أن الأساتذة يعلمون طلابهم بطريقة رائعة هي أنهم يجب أن يتعلموا المعرفة بطريقة مبسطة ومضحكة!!.
ولكنني انزعجت كثيرا عندما رأيت السيد: : روستى وهو عسكري سابق يتولى منصب نائب مدير أحد مراكز البحوث في جامعة شيكاجوquot; rusty carter rook- assistant director, center for middle eastern studiesquot; وتساءلت لماذا لا يتولى المنصب أحد الأساتذة العاملين؟ كما أزعجني كثيرا بعض ردوده على أسئلة الزملاء حيث رد على زميلي عندما سأله لماذا تتزايد أعداد النساء والأطفال القتلى في العراق؟ قائلا: أبعدوا الأطفال والنساء عن مرمى نيراننا!! كما رد على زميلة من سوريا أخبرته أن عدد اللاجئين العراقيين يزداد ويحملون قصصا مأساوية عندما يعرفها أطفالنا يقولون: نحن نكره أمريكا، فرد عليها: بالأموال سنحل كل المشكلات!!.

وصاحبني سؤال آخر بعدما قابلنا السيد روستي هو: لماذا يحمل بعض الجنود الأمريكيين رؤى عنصرية؟ ولم أحصل على إجابة حتى الآن ولكن أراحني حديث المفكر الفرنسي جار ودي عن quot;صراع الأصولياتquot; حيث يقوم أتباع كل دين بتفصيل أدلى منه لتبرير كراهية الآخرين وممارسة العنف ضدهم.
كان الأمريكيون كريمين جدا معنا طوال الرحلة ولم يمنع جدول الجولة المليء جدا بالمواعيد والمحاضرات أن نقوم بجولات ترفيهية في البحيرات أو في المدن التي زرناها! وكذلك تذوق طعام البلدان الأخرى مثل الهند وتايلاند وتركيا وإيران وفلسطين! كانت الطبيعة الخلابة والنظام في هذه المدن مريحين للنفس جدا لكن بعض الأكلات كانت صعبة جدا لدرجة أنني اتخذت قرارا فكاهيا بالقول للزملاء: عندما سأعود إلى مصر سيكون أول قرار لي هو إصلاح مسار العلاقات مع إيران وإعلان الحرب على الهند.

الغريب أن المنظمين لم يفكروا في تقديم وجبات برجر أو كنتاكي وأنفقوا مبلغا كبيرا في أحد المطاعم الهندية الذي قدم لنا طعاما كثيرا ومنوعا ولا يتفق بعضه مع بعض وكنت جائعا جدا فأكلت أنواع لا أعرفها ولم يكن معي دواء يخفف آلام المعدة ورغم ذلك تحاملت على نفسي وأجبرتها أن تقول كلمة طيبة عن الهند وعندما قابلت زميل هندي مسافر على أحد الطائرات وظننت أنه عربي أو مصري ولكنه أجابني أنه من الهند قلت له: أنا أحب الشعب الهندي (وقلت في نفس الوقت بصوت خفيض جدا ولكنني أكره الطعام الهندي والتايلندي أيضا!!).

زرت في الجولة أيضا مؤسسات إسلامية مختلفة ومؤسسات مسيحية وأحد الحاخامات اليهود لكن حوارنا ndash; من وجهة نظري- لم يكتمل بيننا وأحاول أن أتحاور معه باستخدام الإنترنت . وتوافرت عندي حصيلة كبيرة من الانطباعات والتحليلات في تلك الزيارات والتي تحتاج إلى وقت آخر حتى لا يمل القارىء مني.