ربى أبو عمو من بيروت:صار الموت رخيصاً. تقولها ندى وتبتسم ابتسامة مرتعشة. تترك خيالها يأخذ مداه. هي لحظة تجمع فيها كل عائلتها في صورة، حيث كانوا يضحكون ويجمدون ابتسامة علّها لا تنتهي. quot;هل تفرقنا الأحداث الأمنية في لبنان؟quot;. تغمض عينيها وتحاول طرد الفكرة من خيالها.

وصار الموت رخيصاً. ترتسم هذه العبارة على وجوه الناس المرتبكة. يتقابلون في الشارع. ينظرون إلى ملامح بعضهم البعض، يتشاركون مصابهم في الوطن. الوجوه صفراء، تحاول طرد خوفها من quot;الآتي الأعظمquot;، إلاّ أنه ما باليد حيلة سوى بعض الحذر، وتقضية معظم الوقت في المنزل. بات اللبنانيون يخافون أي موعد مؤجل. فهل نعيش إلى هذا الموعد، أم يغدر بنا تفجير أم قنصٌ غير متوقع؟


كثيرون ملّوا السياسة وصناعها. كرهوا تداولها. فاللبناني الذي يولد ويتعلم الكلام في السياسة قبل الكلام نفسه صار ينتقم من هذه الميزة، بل يرفسها. إذ باتت كذبابة تشوّش آذانهم. يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية. يذهبون صباحاً إلى أعمالهم، يستمعون إلى أغنيات فيروز في سياراتهم بعيداً عن مجرّد التفكير بالموت. يفكرون في مكان جميل لتمضية نهاية عطلة الأسبوع من دون خوف. ربما أصبح المواطن اللبناني عاجزاً عن التفكير بإيجابية كما يطلب علم النفس من الناس حتى يستطيعون تحقيق الحد الأدنى من توقاعتهم في الحياة. يحاولون فقط ترويض أنفسهم بعبارة quot;إن شاء الله خيرquot;. لجأ البعض إلى الدين، فهم يسعون إلى إحاطة انفسهم بحصانة معنوية. آخرون اتخذوا من اللامبالاة أو التفاؤل والاصرار على المتابعة، مصدر قوة.

بعد الاضطرابات التي شهدتها منطقة مار مخايل، كان فراس يدرك أنه لا يستطيع اعتزال الحياة والبقاء في المنزل. نزل إلى عمله باكراً، عيناه تتنقلان يميناً ويساراً، تحاولان رصد أي يسارة تبدو في نظره موضع شبهة، كأن الوصول بالسلامة إلى المكان المقصود بات معجزة. هذا حال غالبية الناس. الكل يشتبه بالكل. الثياب الغريبة، الملامح الجدية، اليدين المرتجفتين، جميعها تشكل في لاوعي اللبنانيين ذريعة للاشتباه. لدى وصول فراس مكان عمله، اتصل بعائلته يطمئنها، التي صارت إحدى طقوسه اليومية الجديدة.

داخل المكتب، كانت الوجوه كلّها تخفي وراءها الكثير من التساؤلات. علام سنستيقظ غداً؟ يدور نقاش حول أسباب النزول إلى الشارع وتسييس المطالب المعيشية، وبين صحة توقيت النزول وعدمه، والأهم هوية القاتل. حلقة النقاش هذه تتحوّل إلى صراخ، كمن يحاول طرد أرواح شريرة تعبث بالمكان. لا يختلفون على مبدأ النقاش، فهم متفقون أن الجميع يخطئ من دون استثناء. تبادل الآراء ليس إلاّ محاولة لتحديد جهة مسؤولة، وبالتالي الابتعاد عنها باعتبارها مركز الخطر. إلاّ أن الجميع بات يخشى حتى هذه النقاشات، يحاول تحاشيها لأنها صارت إحدى مسببات خوفه وتوتره الدائم.

رغم كل شيء، لم يتوقف اللبنانيون عن مشاركة همومهم مع الشارع الذين تعودوا البوح له بحكاياتهم، حزنهم وفرحهم، والآن قلقهم. يسألونه: هل تعود حرب الشوراع؟ هل سنركض مجدداً للاختباء من قناص يصطاد ضحاياه بقلب باردٍ؟ قلب يهوى الدم، وتعداد الموتى. ربما هو دافع لا يعرفون أسبابه، يدفعهم إلى التحدي ومواصلة العيش. يرفضون مقولة التاريخ يعيد نفسه، فإذا فعلها سيقفلون الكتاب ولن يسردوا الأحداث مرة أخرى. لكن نكهة العيش لم تعد على حالها. هي مصحوبة بمزيج من التكهنات وافتراضات المستقبل. الأكيد أن غالبية اللبنانيين باتوا غير مكترثين بفحوى الحل للأزمة، فالمهم هو الانتهاء من لعنة الموت المتربصة بهم.

في إحدى أحياء بيروت، تسكن أم رضا وعائلتها المؤلفة من خمسة أولاد. يعرف جيرانها كيف تحوّل خوفها إلى وسواس. هو حال كل الأمهات. تشعر طوال الوقت أن أولادها مستهدفين، فعليها أن تحميهم حتى تضمن عودتهم إليها. عند حدوث أي انفجار، تركض في الشارع وتبدأ بالسؤال عن أولادها. تحاول الاتصال بهم، ولا تطمئن إلاّ حين تسمع أصواتهم، رغم معرفتها في كثير من الأحيان أن أماكن تواجدهم بعيدة عن مكان الانفجار.

تقول أم رضا أن إحساسها هذا ليس مبالغاً فيه على الإطلاق. فما يحدث في لبنان ليس أمراً عادياً. تخبر ما رواه لها أحد الصحافيين الذي يسكن قبالتها، وتبكي. ففي انفجار منطقة الشيفروليه، وقفت أم وابنها في الساحة، وهم يحاولان عبثاً الاتصال بأخيه، من دون أن تساعدهم شبكة الهاتف، حتى تمكن أخيراً هو من الاتصال بها ليطمئنه أنه بخير. فعانقت الأم ولدها في ساحة الموت، وبكت كأنها لا تصدق أن عائلتها لا تزال بخير. فلا أحد يريد أن يجرب quot;حرقةquot; فقدان الابن.

غنّت ريمي بندلي في طفولتها quot;أعطونا الطفولة...أعطونا السلامquot;. الكل يغنيها اليوم. أطفالاً وكباراً. الجميع يستشعر الخطر. الزمان القديم يستعاد ببعض الرموز، بمشاهد كأنها مقتطفات من مسرحية طويلة. الإعلم أيضاً يسترجعها، إذ تعيد الإذاعات بث مسرحيات زياد الرحباني المرتبطة بالحرب. كأننا في الزمان نفسه.وربما أصبحت ألوان شاشاتنا أنقى.