سوق النحاس بالمدينة العتيقة في تونس: تجارة تحتضر وحرفييون هجروا القطاع

أمال الهلالي من تونس:يقع نهج النحاس في قلب المدينة العتيقة بتونس العاصمة وتعد هذه التجارة من أقدم المهن على الإطلاق إذ عرفت عصرها الذهبي وازدهارها في السنوات الماضية و تداولت عليها أجيال من أرباب الاختصاص بالوراثة. وقد اشتهر سكان المدينةquot; العربيquot; الأصليين أو ما يطلق عليهم بمصطلح quot; البلديّةquot; بعادة شراء الأواني والأوعية النحاسية حيث لايخلو أي منزل منها كما كانت العروس ملزمة قبل دخولها لمنزل الزوجية بشراء جميع الأواني المعدة للطبخ والغسيل أو مايعرف بquot;الدوزانquot; الذي لايغيب أبدا عن جهاز العروسة شانه شأن بقية مستلزمات الزفاف كما تحرص النسوة والعجائز من ربات البيوت في كل سنة وتحديدا في الأعياد والمناسبات على quot;قصدرةquot; أواني المطبخ النحاسية وتنظيفها من السواد والشوائب المتأتية من آثار الطبخ على الحطب والنار لتستعيد برقيها وبياضها الناصع عندquot; النحايسيّةquot;.


اليوم كل شيء تغير والمشهد يبدو مختلفا تماما عن السنين الماضية فلا أثر لدكاكينquot;النحايسيّةquot; التي كانت متوزعة يمنة ويسرة على طول الزقاق وأرباب المهنة هجروا القطاع بعضهم مات والبعض الآخر غير تماما نوعية التجارة لتحل محل النحاس تجارة المفروشات والملابس الجاهزة ولم يبقى لأثر هذه التجارة سوى الاسم المعلق على لافتة جدارية وبعض الدكاكين المتوزعة بشكل عشوائي ظل أصحابها صامدين ومتمسكين بصنعة الأجداد بالرغم من كساد هذه التجارة.


quot; لقد ولى الناس مدبرين عن هذه التجارة وهجر اغلب المهنيين القطاع بعد أن أفلس معظمهم وتوفي آخرون فباع أولادهم وأحفادهم من بعدهم الدكاكين ومنهم من غير نشاطه واقتصرت هذه الحرفة على قلة قليلة من الشيوخ وزبائنهم من النساء العجائزquot;. بنبرة حزينة تحدث عبد الفتاح إجابة عن سؤالنا له حول واقع وحال هذه المهنة.


محدثي تجاوز العقد السادس من العمر وأفنى أكثر من نصف حياته في هذه التجارة خمسون سنة مضت تغيرت فيها أشياء وظل دكانه الواقع في قلب نهج النحاس الوحيد واليتيم المتخصص في صنع وquot;قصدرةquot; هذا المعدن رغم كساد هذه التجارة وعدم إقبال الحرفاء عليها.
عبد الفتاح ورث مهنة النحايسي عن والده رحمه الله في محافظة صفاقس 330 كم جنوب العاصمة: quot;لقد كنت حينها صبيا في عنفوان الشباب جعلني والدي مغرما بصنع الأواني والتحف النحاسية فصرت أعشقها وتحولت الهواية إلى مورد رزقي الوحيد ثم انتقلت للعيش بتونس العاصمة في سنوات الستينات حيث كانت هذه التجارية تعيش أوج ازدهارها وانتعاشها و كان الناس يهبون من كل المناطق والأحياء لهذا السوق لشراء مستلزمات المنزل وكان الزقاق يعج بالدكاكين وبغوغاء الباعة والحرفاء لكن كل شيء تغير تطور نسق الحياة وسرعتها من جهة وعقلية المجتمع التونسي من جهة أخرى كما أن غزو البضائع الآسيوية والأوروبية أضر كثيرا بالقطاع وأفلست معظم الدكاكين لتحل محلها مغازات فاخرة تبيع الملابس الجاهزة والمفروشات والأواني الإينوكس والكريستال.


عم عبد الفتاح لم يخفي استياءه من غلاء مادة النحاس التي وصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى 18 دولار بعد أن كان لايتعدى ال6دولارت وهذا الأمر لايمكن أن يتحمل عبئه التاجر فضلا عن هجر أغلب الصناع والفتية لهذا القطاع واشتغالهم في تجارة الملابس الجاهزة ومن
سخرية القدر أن تلك الدكاكين التي كانت في مامضى تبيع قطع النحاس وتشهد إقبالا مطردا صارت تبيع أواني الاينوكس العدو اللدود للنحاس الذي غزا الأسواق التونسية وأضحى إقبال الجيل الجديد من النساء والمتزوجين لهذه المادة ملفت للانتباه نظرا لانخفاض ثمنها وخفة وزنها على عكس الأواني النحاسية.


تقول زينبquot; أنا مقبلة على الزواج لذلك أحرص من حين لآخر على زيارة الأسواق للتبضع وشراء ما ينقصني وقد نصحتني والدتي بشراء الأواني النحاسية لكني رفضت الأمر نظرا لغلاء أسعارها وثقل وزنها كما أني أعتبر الاينوكس أكثر جمالا وجاذبيةquot;.
مروى تشاطر سابقتها الرأي وقد وجدناها بصدد اختيار بعض الأواني المنزلية المصنوعة من مادة الاينوكس والكريستال بدكان كان في ما مضى يشتغل في بيع النحاس.محدثتي ترى أن النحاس ولّى زمانه مع جدتها ووالدتها أما هي فقد ارتأت شراء البلور والاينوكس لأنه يحفاظ على بريقه ولايتطلب قصدرة وتنظيفا كالنحاس.


مرام تستعد للزواج خلال الفترة القادمة وأبدت رفضها لشراء quot;الدوزانquot; الذي تجاوز سعره ال500 دولار رغم إلحاح والدتها التي ترى في ذلك ضربا من العادات المقدسة والضرورات التي لاتغيب عن جهاز العروس.


وعلى خلاف سابقاتها وقفت الحاجة بهيجة على دكان عم عبد الفتاح حاملة بيدها بعض الأواني النحاسية بغرض قصدرتها متحسرة على تلك الأيام التي مضت فقد كان النهج حسب قولها يعج بالنسوة والفتيات المقبلات على الزواج وكانت عادة قصدرة النحاس تنتعش في المواسم والأعياد حيث تهرع نساء الحي لجلب آوني المطبخ متفاخرات في مابينهن بامتلاكهن لهذه الأواني أما اليوم فاندثرت تلك الصورة وصارت فضاءات التسوق الكبرى قبلة النساء والفتيات ولم تستثني حتى العجائز أما النحاس فقد صار استعماله مقتصرا على غرض التجميل والتزويق لاغير.

محمد علي صاحب محل ملاصق لدكان عبد الفتاح متخصص في بيع المفروشات والأواني يقول :quot;ورثت هذا الدكان عن والدي رحمه الله وقد كان فيما مضى يعرض الأواني النحاسية لكني اضطررت في السنوات الأخيرة إلى تغيير نوعية النشاط من النحاس إلى بيع مستلزمات المطبخ الحديثة والمفروشات لأني وجدتها مربحة والطلب عليها فازدياد.

quot; المكان لم يتغير لكن النفوس والعقليات هي التي تغيرت وولت وجهة أخرىquot; بهذه الكلمات ودّعنا عبد الفتاح مؤكدا أن تجارة النحاس تحتضر والمهنيون يختفون الواحد تلو الآخر أما الكساد فهو العنوان الأبرز لهذه التجارة التي عجزت عن الصمود أمام السلع والبضائع المستوردة. سلع غزت الأسواق التونسية وألحقت الضرر بهذه الصناعة التقليدية العريقة في تونس فهل من منقذ؟؟

عدسة:ايلاف