نيوزماتيك/ البصرة: على الرغم من قدم هياكلها وتهدم أطرافها إلا أن شوارع مدينة البصرة لا تزال تألفها..إنها الباصات الخشبية التي مضى على صناعتها أكثر من نصف قرن دون أن تفقد رونقها الخارجي الذي جعل منها معلماً تراثياً التصق بماضي وحاضر المدينة. والفضل في ذلك يعود لأصحابها الذين يحرصون بشكل مستمر على إخضاعها للإدامة والصيانة في محاولة لإخفاء تجاعيد الزمن وإنعاش محركاتها التي تحتضر من شدة الصدأ.

وأعمال الصيانة لا تقتصر على أصحاب الورش الميكانيكية فحسب وإنما يلقى جانب منها على عاتق النجارين الذين يتفننون بزخرفة وطلاء ألواح الخشب التي تحيط بهياكلها. وعادة ما يستخدم في ذلك الخشب الجاوي، نسبة الى جزيرة جاوة الاندونيسية، في الترميم لصلابته ومقاومته الظروف البيئية القاسية.

لكن انعدام توفر قطع غيار هذا النوع من المركبات وارتفاع أسعار الوقود علاوة على تشديد الاجراءات المرورية بحق أصحاب السيارات القديمة قد يضع نهاية قريبة للباصات الخشبية التي يرفض غالبية أصحابها التخلي عنها. بل أن بعضهم يعبر عن إعجابه بها بعبارات كتبها على بدنها مثل: quot;قاهرة الزمنquot; وquot;قاطعة الصحراءquot;.

يقول إسماعيل عيسى، 35 سنة، وهو مالك باص خشبي ورثه عن ابيه، لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;الباصات الخشبية دخلت الى العراق عبر موانئ البصرة من قبل تجار هنود في أواخر العقد الخامس من القرن الماضي وكانت مصممة لغرض نقل الحمولات والبضائع لكنها سرعان ما خضعت لسلسلة من التحويرات والتغييرات فغدت مخصصة لنقل الركابquot;.

ويشير عيسى إلى وجود أكثر من موديل من الباصات الخشبية جميعها مصنعة من قبل شركة شيفروليت الأمريكية وهي ذات مواصفات متشابهه باستثناء بعض الاختلافات في قوة محركاتها التي غالباً ما تكون ذات 6 سرعاتquot;.


وبرغم أن الباصات الخشبية تتسع لـ 14 راكباً إلا أنها غالبا ما تحمل ضعف هذا العدد في مشهد يثير الدهشة والاستغراب وامتعاض رجال المرور هو مشهد تشبث الركاب بجوانب السيارة أو الجلوس جماعياً على سقفها للوصول الى المكان الذي يعتزمون الذهاب إليه مقابل أجر زهيد نسبياً.

ويؤكد عيسى أن الباصات الخشبية جابت جميع مناطق البصرة بأقضيتها ونواحيها قبل أن يبلط معظم شوارعها بالإسفلت. وأشار الى أن quot;بعض سائقي الباصات الخشبية كانوا يلجأون الى وضع سلاسل حديدية حول عجلات مركباتهم بهدف زيادة احتكاكها بالأرض للحد من تعرضها الى الانزلاق أو الغوص في الوحل والطين، لكنهم سرعان ما تخلوا عن هذا الابتكار أمام حركة الإعمار الواسعة التي شهدتها المدينة خلال سبعينيات القرن الماضي والتي أفرزت مشكلة جديدة بالنسبة لهم وهي توقف شركة شيفروليت عن إنتاج وتصدير قطع غيار هذا النوع من المركباتquot;.

واستمرت تداعيات هذه المشكلة في تفاقم الى يومنا هذا حيث يعتمد غالبية أصحاب الباصات الخشبية أسلوب quot;الترقيعquot; في تصليح سياراتهم. ومنهم من طور من أساليبه باستبداله الأجزاء القديمة بأخرى جديدة تعود لمركبات حديثة الصنع وشمل ذلك حتى استبدال المحرك بكامل أجزائه وملحقاته بل أن بعضهم لم يبخل على مركبته بإضافة بعض التقنيات إليها كالتبريد والتدفئة وأجهزة عرض الأقراص الليزرية.

عمار ناصر سائق باص خشبي يمتلكه منذ 10 سنوات قال لـquot;نيوزماتيكquot; quot;أواجه مشاكل كثيرة مع رجال شرطة المرور فهم غالبا ما يمنعوننا من قيادة مثل هذه السيارات في بعض المناطق التي تشهد ازدحاما في حركة السيرquot;. ويؤكد انه دفع quot;آلاف الدنانير تسديداً لغرامات مالية فُرضت عليه من قبل شرطة المرورquot;.

ويضيف أن quot;أقراني من سائقي الباصات الخشبية يعانون كثيراً بسبب عدم رغبة سلطات المرور بوجود مركبات قديمة في شوارع المدينةquot;، مشيرا الى أن

quot;رجال المرور يستندون على حجج واهية في تبرير ذلك منها أن الباصات الخشبية تتسبب بعرقلة إنسيابية سير المركبات وإنها تفتقر الى أدنى شروط الأمان والسلامةquot;.

وقد نجح رجال شرطة المرور مؤخراً في تضييق الخناق على الباصات الخشبية لتتحدد وجهتها ما بين منطقة البصرة القديمة وقضاء أبي الخصيب حصراً. أما احتجاجات أصحاب تلك الباصات فلم تجدي نفعاً بل غالباً ما يدفعون ضريبتها حفنة من المال مقابل تحرير مخالفات فورية بحقهم تحت طائلة quot;عدم الالتزام بالضوابط المروريةquot;.

وفي هذا السياق قال ضابط المرور الملازم خلدون محمد لـquot;نيوزماتيكquot; أن quot;تواجد الباصات الخشبية القديمة في شوارع المدينة يجلب المتاعب لأصحابها وللآخرينquot;، موضحاً أن quot;المدينة شهدت الكثير من الحوادث المرورية التي تسببت بها الباصات الخشبية أما لتعطل فراملها بشكل مفاجئ أو لفقدان السيطرة عليها وكانت الحصيلة ارتفاع عدد الضحايا خاصة عندما يسمح السائقون للركاب بالتسلق على سطح المركبة او التشبث بخلفيتها. هذا التقليد سوف نضع حداً له في القريب العاجل لأنه يعرض حياة المواطنين الى الخطرquot;.

وحول ما إذا كانت مديرية المرور تعتزم منع أصحاب الباصات الخشبية من قيادتها بشكل كامل في المدينة قال الملازم محمد quot;نحن نسعى في سبيل تحقيق ذلك ولكن ليس على حساب إلحاق الضرر بأصحاب تلك المركباتquot;، منتقدا عدم تخلي أصحابها عنها وقال بنبرة ساخرة إن quot;تلك الباصات لا تصلح إلا لنقل الجنائز الى المقبرةquot;.

مسؤول قسم النقل في مرآب البصرة القديمة حامد عباس قال إن quot;أصحاب الباصات الخشبية يجدون متعة حقيقية في قيادتها والعناية بمظهرها الخارجي بالإضافة الى كونها مصدر رزق لهمquot;، معتبراً إصرارهم على عدم التخلي عنها يعود الى كونها quot;مركبة تراثية وامتلاكها هواية هناك من يعشقهاquot;.

ويضيف عباس أن quot;الأعوام القليلة الماضية شهدت تراجعاً ملحوظاً في عدد الباصات الخشبية مقدراً عدد ما تبقى منها حوالي مئتي باصquot;، مستبعدا فكرة اختفائها في المستقبل القريب. وطالب الحكومة المحلية في البصرة التدخل لمنع ما وصفه بـ quot;المضايقات التي يتعرض لها سائقو الباصات الخشبية من قبل شرطة المرورquot;. واعتبر في حديثه لـquot;نيوزماتيكquot; أن تلك quot;الباصات ليست وسيلة نقل فقط إنما هي جزء من تراث المدينةquot;.

وأشار عباس الى أن معظم أصحاب الباصات الخشبية الذين اعتزلوا العمل في المرآب العام لنقل الركاب لم يقدموا على بيع سياراتهم، إنما احتفظوا بها ومنهم من استغلها في بيع الوقود في السوق السوداء بسبب كبر خزانات وقودها إذ يشترون البنزين من محطات تعبئة الوقود بأسعار مدعومة ومن ثم يبيعونه في مناطق تشهد شحة مقابل أسعار تجارية مرتفعة.

ومع اتساع رقعة التحديات التي تحاصرها يبدو أن الباصات الخشبية بدأت تدخل المرحلة الأخيرة من رحلتها مع الزمن، وهي رحلة تستحق أن يحتضنها تراث البصرة ويخلدها مثلما خلد بيوت الشناشيل والزوارق النهرية.

وكالة نيوزماتيك