كامل الشيرازي من الجزائر: كعادتهم كل سنة، يحتفل سكان الجنوب الجزائري بعيد السبيبة السنوي، الذي تبدأ طقوسياته مع بداية شهر محرم من التقويم الهجري وتستمر إلى غاية اليوم العاشر من الشهر ذاته والمصادف لذكرى quot;عاشوراءquot;. وتشهد منطقة جانت (2300 كلم جنوبي شرق العاصمة)، مراسيم إحياء هذه المناسبة التقليدية التي تعتبر من صميم تراث سكان قبائل الطوارق، وتحظى باهتمام السكان المحليين لارتباطها بحسب روايات محلية، بقيمة السلم منذ الصلح التاريخي الذي تمّ بين زعماء قصري أزلواز والميهان بعد حروب ونزاعات دامت طويلا.

وبعدما ظلّ الاحتفال بهذا الحدث مقتصرا في السابق على ثمة طرق تقليدية خاصة، يعمد عرّابو السبيبة إلى تطوير حلة الموعد وترسيخ أدوات مستحدثة في التعبير عن الدعائم الاجتماعية للسبيبة كالإخاء والتسامح والتصالح، حيث صارت تؤدى رقصات جماعية ريتمية على وقع دقات الطبول، مُجسّدة في قالب حكائي درامي ذاك الصراع الذي كان سائدا في عهود غابرة بين القبائل التي كانت تقطن في منطقة الطاسيلي العتيقة، وانتهى بها المطاف إلى الجنوح نحو السلم والصلح، كما تنطوي هذه الرقصات على سرد ما انتاب مختلف حلقات الصراع الدامي من خلال ارتداء عموم الراقصين ألبسة حربية وحملهم أسلحة وانخراطهم في حركات متناسقة تعبر عن حركة المقاتل أثناء الحرب وأسراره في الدفاع عن شرفه، لتختتم الرقصات الجماعية بلوحات معبرة عن توحد القبائل المحلية في مواجهة العدو المشترك، وعادة ما ترافق هذه الحركات في هذه المناسبة زغاريد النسوة التي توحي أنّ المرأة الطارقية التي تتوشح في هذه الموعد بأجمل ما لديها من حلي ولباس، تتجند بدورها إلى جانب الرجل في الحرب، كما تنقل الرقصات أوج مشاهد الصراع والقتال بين القبيلتين المتحاربتين والتي تنتهي بتدخل العقلاء لوقف الفتنة، وهم يدعون إلى الصلح وما تؤول إليه من إبرام معاهدات بين الأجداد القدامى.

ويحرص سكان الجنوب على الاحتفاء الدائم بعيد السبيبة، لما تمثله بنظرهم من وزن في التلاحم الاجتماعي الداخلي بين القبائل، والابتعاد عن التطاحن الداخلي الذي ميّز مرحلة غابرة من تاريخ قبائل منطقة الطاسيلي.

ويختار الطوارق الالتفاف حول حضرة quot;أمين العقالquot; وهو شخصية روحية لها قداستها، كما يؤدون زيارة إلى مقام quot;مولاي عبد الرحمنquot;، ويغتنمون الموعد لبحث أوجه متعددة للتراث اللامادي الذي تزخر به منطقتهم.

ويواكب الحدث، برنامج استعراضي لا يقل دسامة وتنوّعا، حيث تقام كرنفالات تترجم العواطف المشحونة التي يختزنها التراث العريق لقبائل الطوارق، وتؤجج الذاكرة الجماعية للسكان، ويدفعها إلى وحدة الهدف والمصير، ويطبع هذه الكرنفالات قالب كوريغرافي خاص، وعادة ما ترافقها زغاريد النسوة اللواتي تتشحنّ بأجمل ما لديهنّ من حلي ولباس.

وللاحتفال بعيد السبيبة، يطهى طبق تقليدي في الجزائر، يدعى quot;البويشةquot;، وهي الأكلة المفضلة لاستقبال هذه المناسبة، حيث تتمسك بها العائلات ولا تستغني عنها مهما تطورت العادات، وقد ورثته الأمهات عن جداتهن، بيد إنّهنّ لا تتحرجنّ من الاعتراف بجهلهن بأصل هذه الكيفية وتكتفين بنقلها إلى بناتهن، رغم تكلفته الباهظة والأعباء المترتبة عنه بسبب زيادة الأسعار في الأعياد والمواسم.

ويوحي اسم quot;البويشةquot; بلفظ بربري، لكن يبقى معناه مجهولا من طرف السكان المحليين، ويقول رواة إنّ البويشة تعود إلى زمن بريطانيا القديمة، ووصلت إلى الجزائر منذ قرون عديدة بغرض quot;حشو بطون العبيد المكلفين بإنجاز الأعمال الشاقةquot;.

وعلى إيقاع طقوس مميزة في عمليتي التحضير والاستهلاك، يتّم إعداد الطبق المذكور بمزج الدقيق والتمر المجفف وزيت الزيتون، وتضاف إليها أحشاء كبش عيد الأضحى، التي تجفف ويُحافظ عليها خصيصا لهذه المناسبة، كما تتم الاستعانة بمواد أخرى للرفع من مذاق هذه الأكلة، وبعدما يجري (دمج) المواد الآنفة الذكر في قدر ضخم من الحديد، يتّم ترك الأخير لساعات طويلة فوق نار هادئة -تتعدى الثماني ساعات-، وقد يحصل في بعض الأحيان أن ينفجر القدر من شدة الضغط والحرارة !

وتشبه البويشة الطبق البريطاني الشهير quot;البلوم البودينغ quot; وذلك في طريقة تحضيرها، حيث تدخل في تركيبتها مواد عديدة تتطلب مهارة ووقتا طويلا، إذ ينفق الطباخون أياما عديدة لاستكمال إنضاج ذاك الطبق، فيلجأون إلى ترك المزيج المكون من أكثر من 27 مادة غذائية، سبعة أيام متصلة حتى يجري الحصول على ذوق مميز.

ويقدّم هذا الطبق باردا في صبيحة عاشوراء، حيث يجتمع شمل العائلات حول البويشة، واللافت إنّ هذا الطبق الواسع الشعبية بين الأجيال المتقدمة في السن، يشبه عموم أطباق الحرب وذلك لقيمته الغذائية العالية وطريقة تحضيره.