كامل الشيرازي من الجزائر: أعلن في الجزائر، اليوم، عن انتهاء وشيك لخطة ترميم ضريح العلامة الجزائري الشهير عبد الرحمن الثعالبي، وذكرت نسيمة لوزري المكلفة بمتابعة ملف ترميم هذا المعلم الأثري النفيس، أنّ الجزء المتبقي من أشغال الترميم ستشمل بلاطات الخزف والتهيئة الخارجية وأعمال الدهن والبلاط ونجارة الجدران والأعمدة.


وظلّ هذا الضريح صاحب 313 سنة من الوجود، يعاني من تداعي كثير من هياكله على مدار السنين السابقة، الأمر الذي حرّك الشغوفين بالتراث وجعلهم يسرعون تحركاتهم لإنقاذ المكان الذي دفن فيه الثعالبي قبل خمسة قرون ونيف.
ودأب الجزائريون، منذ قديم الزمان على زيارة ضريح الثعالبي، الواقع بحي القصبة الشعبي وسط العاصمة الجزائرية، وأصبحت زيارة مقامه على مرّ السنين، تقليدا اكتسب مغزاه، لكون الجزائريين يعتبرون الثعالبي قدوتهم، فرفعوا مكانته بينهم قديما وحملوا في صدورهم حبه وتقديره على مدى قرون من الزمن حتى أضحى رمزا لعاصمتهم، تبعا لدوره في نشر العلم بين الجزائريين، لذا يعترف هؤلاء بمكانة الرجل وفضله عليهم، ما زاد من رسوخ الثعالبي في المخيال الجماهيري المحلي كأحد المفاتيح الذهبية الخالدة للذاكرة الجزائرية العريقة.


ويعدّ quot;عبد الرحمان الثعالبيquot; هو واحدا من أهم الشخصيات وأبرزها في تاريخ منطقة المغرب العربي، ظلّ ذائع الصيت وملأ صوته الدنيا والناس، لما اشتهر به من علم ونضال وورع، جعفري النسب، إذ يمتدّ نسبه بحسب الرواة إلى جعفر ابن أبي طالب، وٌلد سنة 785هـ /1384 ميلادية بوادي يسر ضواحي عاصمة الجزائر، وشغف الثعالبي منذ نعومة أظفاره بحب العلم، فدرس بالمغرب الأقصى، ثم انتقل إلى عاصمة الحماديين quot;بجايةquot;، ليرحل عنها بعد وفاة أبيه الذي دفن في نفس المدينة، ثم انتقل إلى تونس في 810ه/1406م، وهو ما تزامن مع وفاة مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون.
وتلقى الثعالبي، العلوم الشرعية والعصرية كالطب والفلك والحساب، واشتهر بذكائه وقوة حفظه، وهو ما صنع نجوميته عندما استقر لفترة في مصر وتركيا، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه ويؤسس المدرسة الثعالبية التي خلّفت أجيالا من العلماء والمفكرين، كما أسهم في الذود عن الجزائر، بعدما زادت التحرشات الاسبانية والبرتغالية أوجها بشمال إفريقيا، نتيجة تنازع دويلات المغرب الضعيفة سنة 819 ه/1414م، ويشدّد الباحث الجزائري المخضرم عبد الرحمن الجيلالي، بهذا الصدد، على أنّ الثعالبي كان له دور حاسم في انتظام النضال الحربي والسياسي في الجزائر وعموم المنطقة المغاربية، كما أسهم الثعالبي في إخراج أهل الجزائر من أميتهم وتخلفهم الفكري والثقافي، بعد أن كانوا لا يؤمنون إلا بالكرامات وتقديس الأولياء والمعجزات.

وتوفي الثعالبي يوم الجمعة 23 رمضان 875هـ/15مارس 1479م عن عمر يناهز 95 سنة، قضاها في الجهاد وطلب العلم والتعليم، ودفن في أعالي القصبة بربوة كانت مكانا يلقّن فيها طلبته، وخلّف الثعالبي ورائه عشرات المؤلفات، قدّرها مؤرخون بسبعين مؤلفا، فيما أحصى آخرون مائتي كتاب ومخطوط، ويعتبرون ذلك رقما جزئيا لأنّ كتب الثعالبي لا تزال متناثرة في عدة مكتبات في العالم على شكل مخطوطات.


ويقول باحثون إنّ أعمال الثعالبي اندرجت في إطار تصوف إسلامي صحيح استمد أصوله من الكتاب والسنة، كما استوحى الثعالبي تصوفه من المدرسة الغزالية، إذ تطغى النزعة الغزالية على جل كتبه، وهو ما دفع الثعالبي إلى التصوف والزهد، كما كان تصوف الثعالبي ضد الفتن والأجواء السياسية والمجادلات العقلية والعصبيات المذهبية، في حين اعتنى عناية كبيرة بعلم الكلام، وحرص على تحديد المصطلحات الكلامية، كما مصطلحات التصوف.
ولطالما اقترنت العاصمة الجزائرية برمز عبد الرحمن الثعالبي، ولا غرابة إن خاطبك أحد السكان المحليين بقوله:quot;عاصمتنا هي مدينة سيدي عبد الرحمنquot;، كما يحضر الثعالبي بقوة في عموم الأغاني والأهازيج الشعبية كرمز مدينة الجزائر وازدهارها الثقافي والعمراني.


ويحتلّ مقام الثعالبي موقعا استراتيجيا وجميلا يطل على البحر، ويمكن أن ترقيه السلطات إلى معلم سياحي فريد من نوعه، كما بإمكانها أن ترقيه إلى مجمع ثقافي، ينسج على منوال ما كرّسه الثعالبي نفسه في زمانه، عندما جعل المكان منطلقا للإشعاع الثقافي ومنارة للعلم قبل قرون خلت.
ويمتاز ضريح الثعالبي، بهندسته المعمارية الأخاذّة، إذ هي غاية في الأصالة والتناسق والجمال، ما يدفع الكثير من السواح والفضوليين لزيارته باستمرار، علما إنّ ضريح الثعالبي كان في سنواته الأولى يتوسط مقامه بين دروب القصبة، لكن الجزائر بعد استقلالها، أجرت عملية توسيع للمكان، ما حوّل الضريح إلى جهة مستقلة، ويلاحظ الزائر لضريح الثعالبي، تغطيته بتابوت خشبي أخضر اللون ووشاح أخضر، وعلى الجانب، يوجد قبر سيدي أبي جمعة بن الحسين المكناسي، وعند شمال المحراب يوجد قبر السيدة quot;روزة بنت محمد الخزناجيquot; زوجة quot;يحيى آغاquot; أحد كبار رجالات السراي في ذروة التواجد التركي بالجزائر، وعند منتهى الشمال الشرقي يوجد قبور أخرى لأعلام الدولة العثمانية، بينهم: حسن باشا، مصطفى باشا، عمر باشا وأحمد داي.


ورغم مرور خمسة قرون، ما زال الجزائريون يواظبون على معانقة مقام الثعالبي للزيارة والدعاء، حتى في أشدّ سنوات الفتنة الدموية في تسعينيات القرن الماضي، عندما تعرّض مقام الثعالبي للتخريب والحرق، حيث سرعان ما تمّ ترميمه وأعيد فتحه في وجه قاصديه، ليستمر كقبلة للشيوخ والعجائز الذين يشدهم الحنين إلى هذا المقام الشامخ نظرا لخصوصيته لدى الجزائريين.


ورغم نهي القائمين على المقام، للزوار، ودعوتهم لتفادي بعض السلوكيات المحرمة ذات الصلة بالشعوذة التي عمل الثعالبي طيلة حياته على محاربتها، إلاّ أنّ المؤسف في مختلف اليوميات التي تشهد زيارة مكثفة للضريح، هي تلك السلوكيات السلبية التي تحدث بالمقام من قبل نسوة يمارسن بدعا خاصة، ما جعل الضريح يتحول إلى مكان للقيل والقال والفوضى، حتى يخال المرء أنّ الأمر يتعلق بقاعة للحفلات نظرا لكثرة الزغاريد، وإشعال الشموع والدوران حول الضريح عدة مرات مع رمي الحناء على حواشيه، اعتقادا من جمهور الزائرات، أنّ سلوكاتهنّ من شأنها خلق المعجزات وإتيان الخوارق، من تسهيل زواج العوانس، إلى نجاح أبنائهنّ في الدراسة والسفر، وما إلى ذلك.


الغريب أيضا، تردّد (العرّافات) على المقام، سيما الاثنين والخميس وفي مناسبات دينية أخرى كالمولد النبوي الشريف، وطبعا مقدمهنّ له صلة بتحقيق غايات خاصة، وتعمد هاته العرّافات إلى القيام بممارسات (شاذة) بعيدا عن الأعين، إذ تصرّ كل واحدة منهنّ، أن تبقين منفردات داخل المقام لغايات هنّ يعلمن أسرارها(..).