يعدّ المتحف الجزائري quot;أحمد زبانةquot; نافذة حقيقية للمسكوكات النادرة، ففي هذا المتحف الواقع وسط مدينة وهران (400 كلم غرب العاصمة)، نعثر على عشرة آلاف قطعة نقدية تؤرخ لمختلف الحقب التي عرفتها البشرية من الحقبة البيزنطية، إلى العهد العباسي والمرابطي والموحدي والمريني، فضلا عما خلّفه الأغالبة والأدارسة والزيانيين والعثمانيين، وكذا الدولة الجزائرية الحديثة لمؤسسها الأمير عبد القادر (1807-1883) ومنطقة المغرب العربي.


كامل الشيرازي من الجزائر: يقول الباحث quot;جيلالي كبّاسquot; إنّ متحف زبانة جرى تأسيسه في الخامس مارس/آذار 1885 أيام الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقد عيّنت إدارة المحتل آنذاك الرائد دومايت محافظا له، ويضيف كبّاس لـquot;إيلافquot; أنّ المتحف شهد خلال سنواته اللاحقة اتساعا على نحو جعله يستوعب كثير من تحف الزمن القديم، وغداة نيل الجزائر استقلالها في الخامس يوليو/تموز 1962، جرى الاهتمام بإعادة تهيئة المتحف وهيكلته على نحو مكّنه مع مرور 47 سنة من التحوّل إلى مجمع عملاق يخلب زائريه، علما أنّ متحف زبانة سُمي كذلك تخليدا لذكرى الشهيد الجزائري الرمز quot;أحمد زهانةquot; المدعو زبانة (1926 - 1956).

ويشير خبير الآثار quot;عثمان جراونquot; إلى أنّ مسكوكات المتحف تمتاز بتنوعها الكبير، حيث جمعت بين العهود الزمنية المختلفة والحضارات البشرية المتعددة في الوقت ذاته، وجرى سكّها بمواد مختلفة من ذهب وفضة وبرونز ونحاس، ويضيف جروان أنّ هذه المسكوكات تتمايز بين ثلاثة عصور، أولاها العصر القديم بنقود وقلادات يعود تاريخها إلى كل من الحضارة المصرية، البونية، النوميدية، الموريتانية والرومانية، العصر الوسيط بمجموعات ترجع إلى الأغالبة، الفاطميين، المرابطين، الموحدّين، الزيانيين والمرينيين، والعصر الحديث والمعاصر، حيث نعثر على مجموعات سكّت زمن الإمبراطورية العثمانية، وكذا بمصر، تونس، وتركيا، فضلا عن نقود الدولة السعدية والعلوية بالمغرب الأقصى وكذا مجموعة هامة من القطع التي كانت متداولة إبان نشوء الدولة الجزائرية الحديثة ومقاومة الأمير عبد القادر للاحتلال الفرنسي (1830 - 1847).

ومن أندر القطع النقدية التى يتوفر عليها متحف زبانة عملتان مصنوعتان من مادة البرونز الأولى أيام مملكة سيفاكس والثانية لنجله فرمينا، علما أنّ المتحف يتوفر أيضا على أربعمائة قطعة نقدية بينها خمسة نقود نادرة ملبسة بالذهب تعود إلى أوائل الفتوحات الاسلامية، ومعظمها هي ثمرة أبحاث لاستكشافات أثرية أو عبارة عن هبات قدمها أصدقاء ومحبي الآثار.

ويلفت الباحثان quot;جمال عليانquot; وquot;آمال سريويquot; إلى أنّ غالبية العملات المعروضة بمتحف زبانة مصنوعة من مواد النحاس والذهب والفضة والبرونز وأخرى ملبّسة بالذهب، وجميعها تعطي انطباعا حسيا للعامة من خلال نقوشها ومغزاها الظاهر لوجهي العملة، حيث أنّ هذه المسكوكات مؤرخة وتمكّن جمهور المتتبعين من معرفة تطور سوق النقد وجماليات المسكوكات، ويستطرد السوسيولوجي quot;كمال دهّانquot; مستدلا بمقولة العلاذمة الشهير ابن خلدون في مقدمته، وتأكيده على أنّ quot;للنقود وظيفة ضرورية للحاكم اذ بها يتميز الخالص من المغشوش عند المعاملاتquot;، ويعلّق دهّان بأنّ هذه المسكوكات تعتبر المرآة العاكسة لسمة الحكم القائم في سائر الأزمنة والأمكنة، إلى جانب تزويدها عموم الدارسين بمعلومات عن مناح اجتماعية وفنية واقتصادية، كما أنّ كل عملة تكشف مواطن القوة لمدن أو ممالك، على غرار ما واكب حكم كل من سيفاكس وماسينيسا وفرمينا ويوبا وغيرهم.

وينادي باحثون تحدثوا إلى quot;إيلافquot; بحتمية وضع quot;ريبرتوارquot; جامع لمختلف أنواع المسكوكات الموجودة في الجزائر، ويدعو سليم، كريم عثمان وهم طلبة بمعهد الآثار، إلى اهتمام أكبر بالمسكوكات التي يستوعبها متاحف زبانة، حتى يمكن اتخاذها كمرجع أساسي لكل الباحثين، خصوصا في ظلّ quot;الشحّquot; الذي يطغى بحسبهم في مجال الاشتغال على منظومة المسكوكات في الجزائر وتاريخها.

ورغم أنّ متحف زبانة يزخر بمقتنيات عديدة موزعة على أجنحته التسعة، إلاّ أنّ جناح المسكوكات يستقطب اهتمام الزوار على اختلاف فئاتهم، ويذهب مسؤولو المتحف إلى أنّ شرائح الأطفال والتلاميذ والطلبة هي الأكثر معانقة للمسكوكات، وأشادت بهية وخيرة وهما طالبتان بمعهد الأدب بما يقدمه القائمون على جناح المسكوكات من معلومات وافية تثري الثقافة العامة بحسبهما، وتساعد الدارسين في بحوثهم وعروضهم وتمكنهم من اكتشاف أزمنة العملات الذهبية و الفضية التي كان يتداولها الفقير والغني على حد سواء، فضلا عن إعطائها نظرة عن أسواق المال البسيطة التي كانت قائمة وكيف حلت محل نظام المقايضة لتمهّد لبروز سوق الصيرفة العصرية.

ولا يمكن الحديث عن المسكوكات المزدهية في واجهات متحف زبانة، دون التعريج على باقي أجنحة المكان، حيث يمن للزائر أن يلاحظ غزارة ما يضمه جناح ما قبل التاريخ من تحف تعود لفجر التاريخ توحي إلى نشاطات الإنسان البدائي، على غرار ما انطوى عليه العصر الحجري القديم وصناعاته متعددة الأوجه و ذات الوجهين، والعصر الحجري القديم المتأخر وتشكيلته المنّوعة بينها القزمية الهندسية، ناهيك عن العصر الحجري الحديث وما يميزه من مجموعات مصنوعة من الفخار، العظم و الحجر، مثل الأوعية، المخارز، رؤوس السهام والفؤوس المصقولة التي اكتشفت بمغارات جبل المرجاجو الشهير أعالي مدينة وهران.

كما نجد في جناح الآثار القديمة أغراض يعود تاريخها إلى الفترتين البونية والرومانية، كأواني الفخار، المصابيح والنقوش كتلك الشواهد/الفسيفساء المستوحاة من الميثولوجية الرومانية، على غرار المصابيح الـمزخرفة وتماثيل المرمر والبرونز والحجر والتيجان المزخرفة والأعمدة الكورنيثية وقطع البناء، فيما يلحظ المرء حال دخوله جناح الفن الإسلامي مقتنيات برع في صناعتها المسلمون كالألبسة التقليدية والأدوات النحاسية ومجموعة من العناصر الهندسية ومربعات الزليج التي إستعملها المسلمون في تزيين القصور والمساجد.

ومثلما يتموقع متحف زبانة بوهران، ارتضى القائمون عليه جعله أيقونة مطلّة على تاريخ هذه المدينة الساحلية الجميلة، والمنعطفات التي عرفتها عبر التاريخ في ظلّ التواجد العربي والإسباني والعثماني والفرنسي المتتابع، ويتمتع الزوار بتملي نقوش مكتوبة باللغات اللاتينية والإسبانية والعربية وشعارات النبالة وتحف رمزية مثل مفاتيح المدينة المهداة لنابليون الثالث من قبل سكان وهران سنة 1865.

ويشتمل جناح الإثنوغرافيا على تحف تعكس الحياة اليومية لقبائل وشعوب بـلاد المغرب العربي، إفريقيا، آسيا وأوقيانوسيا، ومهاراتها اليدوية كابداعات الإنسان المغاربي في مجال الصناعات التقليدية، وكذا سائر التمظهرات والسلوكيات والتعويذات، ويجتذبك جناح الفنون الجميلة بما يقترحه الفن التشكيلي الجزائري المعاصر ونتاجات كبار أعلامه من قامة: معمري، قرماز، أسياخم، خدة وباية، إضافة إلى الفن الأوروبي بمختلف مدارسه الفلاموندرية، الهولندية، الفرنسية، ومذاهبه الكلاسيكية، الانطباعية والتجريدية التي عبّر عنها ديني، فرومونتان، سوريدا وغيرهم، تماما مثل النحت وأفانين رودان وبالموندو ومبدعين جزائريين أمثال بوكرش وبوهداج وغيرهما.

وبجناح quot;تاريخ الطبيعةquot;، تحتل المجموعات الحيوانية لتاريخ الطبيعة مكانة معتبرة نظرا لقيمتها الإيكولوجية و لتاريخية، حيث تضم عينات محنطة و عظمية، تم اقتناؤها إثر عمليات استكشافية منذ بدايات القرن التاسع عشر، منها بعض الأنواع النادرة للسلاحف البحرية والفقمة والفهود، فضلا عن الطيور، الزواحف، ومجموعات متنوعة من النباتات والحيوانات المتحجرة، ونماذج من المعادن كالنحاس، الزئبق والفحم.

ويولي مسيرو متحف زبانة اهتماما بحفظ الذاكرة الثورية المحلية من خلال ما يضمه quot;جناح المجاهدquot;، حيث تتوافر بين أروقته وثائق وعـينات من الذخيرة والألبسة العسكرية مع بقايا أسلحة وآلات رقن وسحب استخدمت إبان مسار الكفاح التحرري (1954 - 1962).