لا تروي رواية "المتاهة" معاناة رجل فقد ماضيه ويسعى إلى استعادته فحسب، بل في مساحاتها البيضاء بين السطور دعوة للقارئ إلى البحث عن الحقيقة والوصول إليها من خلال التشكيك بها.

"إيلاف" من بيروت: ما الذي يجعلنا كما نحن؟ تجول هذه المسألة في خاطرنا طوال الوقت، من الخلايا في أجسامنا التي تموت وتتجدد، إلى الذكريات التي نخلقها ونخسرها كل يوم.&

تثير الرواية الرابعة للكاتب التركي برهان سونميز "المتاهة" Labyrinth (المؤلفة من 208 صفحات، منشورات أزير برس، 9.99 دولارًا) قلقًا عميقًا حيال كيفية تعريفنا الذاكرة والجسد والروابط بينهما.

بطل الرواية
يستيقظ بوراتين، بطل الرواية، في صفحاتها الأولى، ويدرك أنه لم يعد في المستشفى ليجد نفسه في المنزل. قبل أيام فقط، استيقظ في المستشفى بعد محاولته الانتحار قفزًا من أعلى جسر البوسفور.

تسببت محاولة الانتحار لبوراتين بفقدان الذاكرة الذي دمّر مفهومه الكامل لنفسه، لكنه ترك له اللغة التي يتحدث بها، والشعور المختلط في الوقت، وذكريات غامضة من الأفلام، وأسماء المغنين والرياضيين، وتفاصيل أخرى. لذلك عندما يستيقظ في المنزل، لا يشعر بالراحة لوجوده في فراشه.&

في حين أن بوراتين كان معروفًا ذات يوم كمغني موسيقى بلوز وسيم ولطيف في أواخر العشرينات من عمره في إسطنبول، لم يعد لديه ارتباط كبير بأي جانب من جوانب هويته. غالبًا ما يكون مرتبكًا، خصوصًا أن أحدًا لا يبدو أنه يأخذ فكرة فقدان الذاكرة بجدية كما يفعل هو.

يختلط الزمن على بوراتين فيظن الأموات أحياء، والأحياء أمواتًا. يشكك في حقيقة ما يراه، ويظنه جزءًا من التاريخ، ولا يعرف إن كان النسيان نقمة أم نعمة. يبحث عن أجوبة عمّا يجول في رأسه من أسئلة في الساعات والمرايا ومنارات البحر.

المشاعر والذكريات
خلال هذه الرواية الهادئة، يتجول بوراتين ويجري محادثات مع الأصدقاء الذين يحاولون طمأنته إلى أنه كان رجلًا طيبًا وصديقًا جيدًا قبل فقدان ذاكرته. في الغالب، يفكر في ما يمر به، ويحاول التوفيق بين شخصيته الحالية والمشاعر الماضية التي لا يستطيع الوصول إليها.

ينشأ التوتر في هذه الرواية التي تكون أحيانًا عميقة ومجنونة من ما إذا كان بوراتين سيستعيد ذاكرته، وما إذا كنا سنكتشف حقيقة ما الذي يجعله من هو بالفعل، وما إذا كانت مثل هذه الأسئلة العميقة تبدو مهمة. إن فقدان الذاكرة جزئي ومُحدد: فهو لا يمكن أن يتذكر أي شيء عن حياته أو ماضيه، لكنه يعرف كيفية استخدام الكلمات، وكيفية التنقل في الوجود اليومي، وكيف يكون شخصًا في العالم.

يتذكر بوراتين في الرواية أيضًا التفصيلات التاريخية، على الرغم من أنه لا يستطيع وضعها في السياق الصحيح أو التسلسل الزمني، ويقول: "ذهني، الذي لم تكن لديه كلمة واحدة عن نفسي، ينفجر بحقائق عن أشياء أخرى كأسماء الفلاسفة القدماء، وألوان فرق كرة القدم، وكلمات رائد الفضاء الأول الذي ذهب إلى القمر".

تساؤلات
يقضي بوراتين، المحرر من أعباء تاريخه، وقته في المنزل أو التجول في أنحاء إسطنبول، ومقابلة الغرباء (وأحيانًا الأصدقاء) والتأمل في طبيعة الذات. وطرح بعض الأسئلة التي تؤدي إلى تأملات عميقة في ما يجعلنا بشرًا.

تتدفق الأسئلة من الصفحات وتتردد لدينا. ما الذي يجعل كما نحن؟ إن لم نتمكن من تذكر ماضينا، أما زال ملكًا لنا؟ هل نتحمل مسؤولية الأشياء التي قمنا بها؟ كيف تتقاطع تواريخنا الشخصية مع تاريخ مدننا وبلداننا ومجتمعاتنا؟ عندما يرانا أصدقاؤنا في حالة بوراتين، فهل يرون الشخص نفسه الذي رأوه دائمًا، أو شخصًا آخر تمامًا؟ هل يمكن لشخص بدون ماضٍ أن يكون له حاضر ذات مغزى ومستقبل مفعم بالأمل؟.

ربما تصل تجارب الفكر هذه إلى واقع حقيقي حين نتساءل عن كيفية إعادة اختراع أنفسنا من دون الرجوع إلى ما حدث من قبل، أو عندما نتصارع مع هشاشة العقل. إذا كنا نريد أن نتخيل الرواية كفيلم، يمكن أن تكون نوعًا من قصص التشويق النفسي، حيث يصبح بطل الرواية الذي خانته الذاكرة هو المحقق الذي يبحث عن قصته.


أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن " نيويورك تايمز". الأصل منشور على الرابط:
https://www.nytimes.com/2019/11/25/books/review-labyrinth-burhan-sonmez.html&