لم يعد خافيًا على أحد أن تقانة الاتصالات الحديثة تؤمّن للجميع تواصلًا اجتماعيًا افتراضيًا، لكنها تمنع الناس من الإصغاء بعضهم إلى بعض حين يلتقون. إنه وباء التكنولوجيا.

إيلاف: في كتابها "أنت لا تسمع" You’re Not Listening الذي صدر أخيرًا (منشورات هارفيل سيكير، 17 جنيهًا إسترلينيًا)، عَمِدَت كيت ميرفي إلى تسليط الضوء على أمور مهمة باتت تشكل تهديدًا على قوام المجتمع وترابطه بشكل عام، وفي مقدمة هذه الأمور مسألة انفراد الأشخاص بهواتفهم المحمولة وانعزالهم عن المحيطين بهم بصورة تدعو حقًا إلى التمعن.

حرصت ميرفي على إبراز المشكلة وتحليلها في فصول الكتاب، وعلَّقت في هذا السياق بقولها "بات يميل الناس في المقاهي والمطاعم وعلى موائد الطعام العائلية إلى النظر إلى هواتفهم المحمولة بدلًا من التحدث، بعضهم مع بعض. وحتى إن تحادثوا، تجد هواتفهم موضوعة على المائدة كأنها جزء من الجلسة".

كرب وحزن
تابعت ميرفي: "سابقًا، كان يقوم الناس في أوقات خمولهم أو قلقهم بتدخين سيجارة، لكن الوضع تغيّر الآن، وبات أول شيء يفكرون فيه هو استخدام هواتفهم. وكما هي الحال بالنسبة إلى المدخنين مع السجائر، بات يشعر الناس بالقلق من دون هواتفهم".

واصلت ميرفي بتأكيدها في الكتاب على خطورة تداعيات ذلك التحول المجتمعي، مستندة في ذلك إلى كثير من الإحصاءات والنتائج البحثية من أجل إقناع القراء بأنهم ينحدرون عبر تلك العادة السيئة بشكل غير متعمد إلى واقع مرير.

أعقبت بقولها إن الإحصاءات تبيّن أن متوسط الوقت الذي كان يخصصه الناس للإنصات إلى بعضهم في أوقات استيقاظهم على مدار القرن الماضي تراجع بحوالى النصف، من 42 إلى 24 في المئة. كما لفتت إلى نتائج استطلاع شمل 20 ألف أميركيًا في عام 2018، وكشف حوالى نصفهم عن أن حياتهم بلا أي تفاعلات اجتماعية ذات معنى، تزامنًا مع تراجع متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة بسبب الانتحار، إدمان المواد الأفيونية، إدمان الكحول وغيرها من الأمراض التي تعرف بـ "أمراض الكرب أو الحزن"، والتي غالبًا ما يتم الربط بينها وبين الشعور بالوحدة. لفتت ميرفي إلى أن الشعور بالوحدة يؤثر بشكل سلبي في واقع الأمر على صحة الإنسان تأثير تناول المشروبات الكحولية نفسه أو تدخين 14 سيجارة يوميًا.

ليست وحدها
استمرت ميرفي في إبراز فكرة التغيير الذي طرأ بشكل واضح على تركيبة المجتمعات، بالصورة التي تدعو إلى عدم إنكار حقيقة أن ولعنا بالهواتف المحمولة بات يأخذ من الوقت الذي كنا نمضيه سابقًا في الإنصات إلى الأشخاص الذين نشعر بالقرب منهم.

تقول أيضًا إن الهواتف المحمولة ليست وحدها التي تسببت في تدمير قدرتنا على الإنصات، بل إن هناك عوامل أخرى في مقدمتها تلك الثقافة التي تعرف بـ "ثقافة التسويق الشخصي العدواني"، حيث يلتزم فيها الجميع الصمت.

فالإنصات إلى الآخرين، وفق هذه الثقافة، يعني تفويت فرصة لدفع علامتك التجارية إلى الأمام ووضع بصمتك، وغالبًا ما ينظر إلى الاستماع على أنه النظير الوديع للتحدث. ونتيجة للصخب الكبير الذي بات يهيمن على العالم الآن، ربما بات يشكل الإنصات تحديًا بدنيًا بشكل متزايد، فمستويات الصوت على سبيل المثال تقدر في المتوسط الآن بـ 80 ديسيبل في المطاعم بالولايات المتحدة، كما تصل مستويات الصوت في متاجر، مثل إتش آند إم وزارا، إلى 90 ديسيبل. فضلًا عن تحذيرات منظمة الصحة العالمية من سوء استخدام المراهقين لسماعات الرأس بشكل شبه مزمن وتأثير ذلك السلبي على حاسة السمع لديهم، وهو ما وصفته ميرفي بـ "صم الأجيال".

منشغلون بالعالم الافتراضي
تقول ميرفي إن الكتاب سيساعد القراء على تحويل محادثاتهم وعلاقاتهم وحياتهم، مقدمة نصيحتها في السياق نفسه إلى الأمهات في المنازل بأن يستبدلوا نوعية الأسئلة السريعة التي يطرحونها على أطفالهم لدى عودتهم من المدارس بأسئلة أخرى تحمل بين طياتها قدرًا أكبر من الاهتمام، لتوطيد العلاقة وإعادة لغة التحدث والإنصات في نطاق الأسرة بعد تآكلها بسبب التكنولوجيا.

لكن، قد يختلف البعض على طبيعة الحلول التي اقترحتها ميرفي في الكتاب، إلا أن المؤكد أنها تمكنت من تشخيص المشكلة وتحدديها بشكل صحيح، مع قولها في الأخير: "يصعب التركيز على العالم الحقيقي ونحن منشغلون بالعالم الافتراضي. والتكنولوجيا لا تتداخل بهذا الشكل الكبير مع الاستماع إلى الدرجة التي تجعله يبدو غير ضروري".

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "غارديان". الأصل منشور على الرابط:
https://www.theguardian.com/books/2020/jan/11/youre-not-listening-kate-murphy-review