بغداد/ البصرة/ كركوك: تزامن عيد الميلاد الذي يحتفل به المسيحيون هذا العام مع مناسبة عاشوراء وهي من أكبر المناسبات الدينية لدى المسلمين الشيعة في العراق، والتي يحيي فيها الشيعة ذكرى مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء، في أجواء يخيم عليها الحزن وترفع فيها الرايات السود، وسط المجالس التي تروي السيرة التراجيدية للحدث.

وتتناقض هذه المشاهد تماماً مع مناسبة عيد الميلاد التي يحتفل بها المسيحيون كل عام في جميع أنحاء العالم، إلا أن مسيحيي العراق وتقديراً منهم لمشاعرالمسلمين، واحتياطاً من جهة أخرى للوضع الأمني المضطرب بعد مسلسل استهدافهم، قرروا عدم الاحتفال بعيدهم هذه المرة والاكتفاء بممارسة بعض الطقوس البسيطة في منازلهم.

إذ تم في الأمس، تفجير قرب كنيستين في الموصل أسفر عن إصابات بشرية وأضرار مادية، فيما شهدت أسواق بغداد حركة فاترة، إذ خلت بشكل لافت من المتبضعين المسيحيين أو المسلمين، إلى درجة ذكّرت بعض الباعة بـ quot; أيام الاحتراب الطائفيquot;.

الخوف من عودة القتل على الهوية

ويقول أبو أمجد، صاحب محل لبيع الهدايا في منطقة الكرادة داخل، إن quot;الإقبال على شراء الزينة والهدايا الخاصة بأعياد الميلاد هذا العام أقل بكثير من العام الماضيquot;.

ويضيف أبو أمجد في حديث لـquot;السومرية نيوزquot; إن quot;زبائني هذه العام أكثرهم من المسيحيين، عكس العام الماضي إذ كانت الأسر المسلمة تشتري هدايا أكثر من الأسر المسيحيةquot;.

ويعلل أبو أمجد ذلك quot;بتزامن ذكرى عاشوراء مع عيد الميلادquot;، مشيراً إلى أن quot;المسيحيين فضلوا أن لا يتسببوا بأي توتر احتراماً لمشاعر المسلمينquot;.

ويفسر علي عبد الحسن، وهو صاحب محل لبيع الهدايا في البياع، عدم الإقبال على شراء الهدايا quot;بتردي الوضع الأمني، والخوف من عودة القتل على الهوية الذي عاشه المسيحيون وغيرهم في السنوات الماضيةquot;.

ويضيف عبد الحسن، ان quot;التفجيرات الأخيرة جعلت الخوف مسيطراً على الجميع وأولهم المسيحيون المسالمونquot;، بحسب قوله.

وكانت مناطق متفرقة من بغداد شهدت في الثامن من كانون أول الجاري خمسة تفجيرات متزامنة أسفرت، بحسب وزارة الصحة، عن مقتل 77 شخصاً وإصابة 513 آخرين، واستهدف الانفجار الأول الكلية التقنية في منطقة الدورة، تلاه انفجار قرب جامع النداء في حي القاهرة، ثم انفجار سيارة مفخخة عند وزارة العمل في ساحة المستنصرية، والانفجار الرابع في منطقة الشورجة، فيما انفجرت سيارة خامسة قرب محكمة الزوراء بالمنصور.

ويرى عبد الحسن أن quot;الإقبال على شراء الهدايا في العام الماضي كان كبيرا من قبل المسيحيين والمسلمين على حد سواء، إلا أن الكثير من المسلمين الشيعة في هذا العام امتنعوا عن شراء هدايا الميلاد بسبب ذكرى عاشوراء الحزينةquot;.

ليحتفل الجميع بطقوسهم ومناسباتهم

وفي ظل أجواء كهذه فضل بعض الشباب المسيحي مثل دانا أوميد ،25 سنة، أن يحتفلوا بأعياد الميلاد ورأس السنة في مدينة عين كاوة بأربيل quot;كي لا يتسببوا في حرج لأنفسهم وللآخرينquot;، ويواصل قائلا إن quot;الذهاب إلى شمال العراق هو الحل الأسلم ليستطيع الجميع إحياء طقوسهم والاحتفال بمناسباتهم كما يشاؤونquot;.

وتعتقد الطالبة الجامعية ريتا أسعد، 24 سنة، أن quot;قرارانا كمسيحيين بالاحتفال بالعيد في منازلنا هو محاولة للابتعاد عن أي مشاكل أو متاعب قد تلحق الضرر بنا، خصوصاً أن الوضع الأمني مرتبك حالياquot;.

وتعبر ريتا عن حزنها quot;لأنني لن أشاهد احتفالات كبيرة في العاصمة بغداد بمناسبة عيد الميلاد، التي يشاركنا الكثير من المسلمين فيهاquot;، وتستدرك quot;ولكن علينا احترام إخوتنا الشيعة الذين يقيمون عزاء عاشوراء الحزين في هذه الأيامquot;.

لن نظهر فرحنا وهناك آلاف القتلى والأيتام

لكن أم ليندا من كركوك بكت وهي تتذكر أخوتها الذين غادروا العراق خوفا من الاعتداءات، وتقول وسط الدموع quot;أشتاق لرؤيتهم، فالعيد لا يكتمل إلا بوجودهمquot;، وتضيف لـquot;السومرية نيوزquot;، quot;لقد رحلوا بسبب الأوضاع الأمنية في الموصل إلى حيث الأمان في استراليا أو الولايات المتحدةquot;.

وتتابع أم ليندا قائلة quot;كنا قبل عام 2003 نستعد أنا وأشقائي قبل أسبوعين لاستقبال العيد بشراء الملابس والهدايا أو تزيين شجرة الميلاد وتهيئة الكليجة وتنظيف المنازلquot;، وتزيد quot;لكن هذا هو قدرنا أن نعيش في وطن ولدنا فيه وسط أعمال قتل وتهجير واختطاف وابتزاز مالي يبدو أنه بلا حدودquot;.

وتوضح أم ليندا بلهجة يائسة أن quot;عيدنا هذا العام سيكون مثل سابقه، حيث ستقتصر مظاهره على شجرة الميلاد وإقامة الصلاة والقداس في الكنائس، لأن الأجواء الأمنية المشحونة في عموم العراق ومنها كركوك تلقي بظلالها على أعياد المسيحيين ومناسبات المسلمينquot;.

وتؤكد أم ليندا quot;في ظل هذه الأوضاع لا نستطيع أن نعلن عن أفراحنا وهناك العشرات بل الآلاف من الأيتام والقتلى في العراقquot;.

وتتوقف أم ليندا ثم تضيف quot;لكن الأطفال لا يدركون أن هناك أوضاعا أمنية غير مستقرة، لهذا اكتفيت بشراء ثوب جديد لابنتي ليندا (8 سنوات)، وابني كوركيس (خمس سنوات)، مع بعض الألعاب والأقنعة الخاصة بالعيد فضلا عن شراء شجرة عيد ميلاد جميلة لكي نقضي معا أيام العيدquot;.

هناك مخطط لإفراغ البلد من المسيحيين

من جهته يقول رئيس أساقفة الكلدان في كركوك لويس ساكو إن quot;الوضع في مدينة كركوك بشكل عام هادئ، لكن تحدث بين فترة وأخرى بعض المحاولات لاستهداف أطيافها، ومن بينها المسيحيونquot;.

ويشير ساكو في حديث لـ quot;السومرية نيوزquot; إلى أن quot;حالات اختطاف المسيحيين ازدادت في الآونة الأخيرة، إما لكسب المال من قبل اللصوص وعصابات الخطف، أو لممارسة ضغوط سياسية لإفراغ البلد من المسيحيينquot;، بحسب قوله.

ويضيف quot;أن عمليات استهداف المسيحيين ارتفعت بشكل عام بعد عام 2003 إذ تم تسجيل مقتل 803 مسيحي في مختلف محافظات العراق، وحدثت أكبر أعمال العنف ضدهم في مدينة الموصل وخاصة في عام 2008 إذ تم خطف وقتل رئيس أساقفة الموصل المطران فرج رحو، وتهجير وفرار أكثر من ثلاثة آلاف عائلة من المدينة باتجاه محافظات أكثر أمنا ومن بينها محافظات إقليم كردستان العراقquot;.

ويكشف رئيس أساقفة كركوك أن quot;نحو 60% من مسيحيي العراق رحلوا إلى الخارج بحثا عن الأمن والمستقبل الأفضل، منذ حرب الخليج الأولى ولغاية عام 2009quot;.

ويضيف quot;أستطيع القول أن 40% من المسيحيين الباقين في العراق يتعرضون بين فترة وأخرى إلى القتل والاختطاف، إنهم تحت رحمة الربquot;.

سنكتفي بالصلاة لمنكوبي بغداد والموصل

ويرى رجل الدين المسيحي أن quot;العراق غير مؤهل لتطبيق التجربة الديمقراطية وممارسة الحرية بعقلية حضارية، لأنه يعيش حاليا حالة من الصراع السياسي على السلطة بين كافة الأطراف، وأصبح المسيحيون، رغما عنهم، جزءا من هذا الصراعquot;.

ويقول المطران ساكو أن quot;منح خمسة مقاعد للمسيحيين في البرلمان الجديد غير كاف لأنهم يستحقون أكثر من ذلك، إذ يوجد عشرات الألوف من المسيحيين خارج العراق وهم يشكلون قاعدة كبيرة لانتخاب من يروه مناسبا لعضوية البرلمان الجديدquot;.

ويلفت ساكو إلى أن quot;احتفال مسيحيي كركوك هذا العام سيقتصرعلى أداء الصلاة والقداس، مع عدم استقبال المهنئين بمناسبة العيد تضامنا مع منكوبي تفجيرات بغداد واستهداف الكنائس في الموصلquot;، مضيفاً أن quot;المسيحيين سيدعون في صلاتهم هذا العام، مثل كل عام، إلى أن تعم حالة الأمن والأمان في العراق، وأن يتجاوز الظروف التي يمر بها حاليا للحفاظ على وحدة أراضيهquot;.

ويرى ماجد متى ،22 سنة، إن quot;اكتفاء مسيحيي كركوك هذا العام بالصلاة وأداء القداس في الكنائس لا يمنعنا من إضفاء لمسة عائلية للعيد من خلال شرائي لشجرة ميلاد كبيرة وبسعر يقارب الـ 125 الف دينار وتزيينها بكرات مختلفة الألوانquot;.

ويواصل متى قائلا إن quot;هذه الشجرة جميلة وهي تحتوي على أضواء ذات ألوان مختلفة وقد جلس في أعلى الشجرة بابا نوئيل حاملا كيسا كبيرا من الهدايا من أجل توزيعها على أطفالنا ليضفي لمسة حب ورسالة سلام إلى عموم المحافظات العراقية وخاصة الموصلquot;.

أمن كركوك: وضعنا خطة لحماية الكنائس

من جهته يقول قائد شرطة كركوك اللواء جمال طاهر بكر إن quot;القوات الأمنية في كركوك وضعت خطة أمنية ورفعت حالة التأهب لحماية الكنائس ومنع حدوث أي هجمات من قبل الجماعات المسلحةquot;.

ويضيف بكر في حديث لـquot;السومرية نيوزquot;، أن quot;قوات من مختلف صنوف الشرطة باشرت بتطبيق تلك الخطة على أرض الواقع لحماية الكنائس إلى جانب نشر قوات أخرى في المناطق التي تتواجد فيها الكنائس مع تكثيف نقاط التفتيش، واتخاذ إجراءات ضد أصحاب المركبات غير الأصولية في كركوكquot;، نحو 260 كم شمال بغداد.

تأكيد على عمق التعايش السلمي

أما مسيحيو البصرة فقد قرروا، كما المسيحيين في باقي مناطق العراق، الاحتفال بمنازلهم احتراما لشهر محرم.

ويقول رئيس لجنة الأقليات الدينية في مجلس محافظة البصرة سعد متى بطرس إن quot;الطوائف المسيحية في محافظة البصرة قررت حجب جميع المظاهر الاحتفالية المتعلقة بأعياد الميلاد وعدم استقبال المهنئين بهذه المناسبة التي سوف يقتصر إحياؤها على إقامة الصلوات في بعض الكنائسquot;.

ويضيف بطرس في حديث لـquot;السومرية نيوزquot;، قائلا إننا quot;نحاول من خلال هذه المبادرة التأكيد على عمق التعايش السلمي من خلال التضامن مع المسلمين الشيعة الذين يحيون في هذه الأيام ذكرى استشهاد بعض رموزهم الدينيةquot;.

ويشير بطرس إلى أن quot;قرار حجب المظاهر الاحتفالية اتخذ بموافقة رجال دين يمثلون جميع الطوائف المسيحية في محافظة البصرة، فضلا عن أن العائلات المسيحية في محافظتي ميسان وذي قار أعربت عن رغبتها وتأييدها للقرار.

ويلفت رئيس لجنة الأقليات إلى أن quot;الطوائف المسيحية في البصرة قامت بتشكيل وفد سيتولى زيارة بعض الجوامع خلال شهر محرم من أجل توطيد العلاقات الودية مع المسلمين الشيعةquot;.

سنحتفل ولأول مرة.. بشكل غير معلن

وبحسب المواطن حسام يعقوب يوحنا،24 سنة، فإن quot;غالبية الأسر المسيحية في محافظة البصرة قامت بتزيين أشجار الميلاد للاحتفال في المنازل، وسوف تتبادل الزيارات والتهاني فيما بينهاquot;.

ويضيف يوحنا في حديث لـquot;السومرية نيوزquot;، أنه quot;على الرغم من تدهور الوضع الأمني في السنوات الماضية إلا أن الأسر المسيحية واصلت الاحتفال بأعياد الميلاد، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يحتفلون فيها بشكل غير معلنquot;.

يذكر أن محافظة البصرة، نحو 590 كم جنوب بغداد، كان يقطنها نحو ثلاثة آلاف مسيحي قبل عام 2003، إلا أن تدهور الوضع الأمني دفع الكثير منهم إلى الهجرة خارج البلاد، ولا يزيد عدد الأسر المتبقية منهم في المحافظة عن 550 أسرة، 120 منها من طائفة الأرمن.

وغالباً ما يحيي مسيحيو البصرة مناسباتهم الدينية في كنيسة القديسة ترازيا الواقعة في منطقة مناوي باشا على الرغم من وجود العديد من الكنائس الأخرى لكن معظمها مغلق أو مهدد بالاندثار بسبب قدم بنائه مثل كنيسة مار توما في منطقة السِيف التي يعود بناؤها إلى عام 1736. ويبلغ عدد المسيحيين في العراق قبيل تغيير النظام السابق في نيسان 2003 نحو المليون ونصف المليون نسمة، غير أنه انخفض في ما بعد بسبب أعمال العنف التي طالتهم فهاجر قسم كبير منهم إلى الخارج، ويقدر عددهم اليوم بحسب إحصاءات غير رسمية بحدود 750 ألف نسمة.

ويضم العراق أربعة طوائف مسيحية رئيسية هي الكلدانية quot;أتباع كنيسة المشرق المتحولين إلى الكثلكةquot;، والسريانية الأرثوذكسية، والسريانية الكاثوليكية، والطائفة اللاتينية الكاثوليكية، والآشورية (أتباع الكنيسة الشرقية)، إضافة إلى أعداد قليلة من أتباع كنائس الأرمن والأقباط والبروتستانت، ويختلف المسيحيون الغربيون عن الشرقيين في موعد احتفالهم بعيد ميلاد السيد المسيح، فبينما يحتفل الكاثوليك والبروتستانت به في الخامس والعشرين من كانون الأول، فان الأرثوذكس في الشرق يحتفلون به في السابع من كانون الثاني من كل عام.