ديالى: رغم برودة الطقس وتبلد السماء بالغيوم التي تنذر بهطول المطر في أي لحظة يتحلق عدد من الأشخاص حول مائدة خمر صغيرة في حديقة عامة يخترقها نهر quot;ساريةquot; وسط مدينة بعقوبة، وفجأة يصيح أحدهم وهو يرفع كأسه quot;نخب السلامquot;، فترتفع كؤوس الآخرين الذين يرددون معه: quot;نخب السلامquot;.

إنهم مجموعة من الأصدقاء اختلفوا في الرأي فتخاصموا وتباعدوا، بينهم السني والشيعي، وأحد عناصر الصحوة، ومن كان في تنظيم القاعدة. ولكن مع أول رشفة يتراجع النزاع وينهض المتخاصمون يقبلون بعضهم ويتعانقون. وفي الرشفة الثانية ينطلق صوت شجي بأغنية ناظم الغزالي الشهيرة quot;طالعة من بيت أبوها رايحة لبيت الجيرانquot;، فينسى الجميع خلافاتهم ويتوحدون مع الغناء.

موائد الخمر تجمع ما فرقته المذاهب والسياسات
يقول عبد الجبار ساجد أحمد (35 سنة) وهو صاحب محل تجاري في بعقوبة quot;لا نستطيع أن ننام وبيننا أصدقاء متخاصمون، لذلك جمعناهم حول هذه المائدة الصغيرة ليتصالحواquot;.

ويضيف أحمد في حديث لـquot;السومرية نيوزquot; وهو يمسك كأسه بيده quot;الخلاف يفسد الحياة، ويكفينا ما أفسدنا به حياتنا سابقا، لابد أن نعيش الحياة بكل لحظاتها بعيدا عن المشاكل والعداءquot;.

ويوضح أحمد quot;انظر، هذه المائدة البسيطة جمعت السني والشيعي وعنصر الصحوة ومن كان ينتمي سابقا إلى القاعدة. لقد تناسوا كل خلافاتهم مع أول رشفة، نحن أناس طيبون جدا في الصميم، ويمكن أن نقبل بالقليل لأن القناعة موجودة في أعماقناquot;.

ويعقب قصي عبد الحميد، وهو أحد عناصر الصحوة الذي وضع في حزامه مسدسا وحربة عسكرية وقد خلع الشريط الملون الذي هو إشارة تعريف بالنسبة للأجهزة الأمنية في الليلquot;نحن مجموعة أصدقاء نختلف في الأفكار، لكننا ما أن نجلس حول مائدة خمر حتى نضع خلافاتنا جانبا وننسى كل شيء، فننشغل بالبحث عن الضحكة والابتسامة بعيدا عن مشاكل الواقع المرquot;.

يحاربون الخمر وينسون القتلة
ويحاول وهاب العزاوي (35 سنة) وهو عامل في مطعم شعبي، أن يفتح موضوعا سياسيا حول الانتخابات المقبلة فيطالبه الجميع بالصمت. وينبري أحدهم فيقول إن quot;السياسة في العراق أفسدت كل شيء، فالسياسيون يحاربون موائد الخمر ويتناسون من يسفك دماء البشرquot;.

ويقول عدنان نصير الحميري (32 سنة موظف بعقد مؤقت) quot;لم نجتمع منذ وقت طويل بسبب أعمال العنف، لكن مع الاستقرار النسبي في الأوضاع الأمنية بدأنا نجتمع ونعيد ذكريات الماضي القريب، فجلساتنا البسيطة لشرب الخمر أصبحت ملاذنا للهرب من الهموم والأحزان والمشاكل التي تحيط بناquot;.

ويضيف الحميري في حديث لـ quot;السومرية نيوزquot;، quot;ها نحن على مائدة يتوسطها الخمر، لن تجد فرقا بين غني أو فقير، بين سني أو شيعي، بين إسلامي أو علمانيquot;.

ويصف الحميري جلسات احتساء الخمر quot;إنها لحظات استراحة واسترخاء، فبين فترة وأخرى نجتمع لحل المشاكل وتبادل الضحك وسماع شيء من أغاني الطرب الجميلquot;.

إسماعيل أبو القاعدة
في الجلسة كان إسماعيل quot;أبو القاعدةquot;، هكذا يسميه أصدقاؤه. يقولون إنه كان أحد عناصر القاعدة فعلا وقد أطلق لحيته وأصبح متدينا مثلهم. ثم اعتقل لعدة أشهر من قبل القوات الأمريكية وأطلق سراحه قبل عام ونصف تقريبا. يشاكسه أحد أصدقائه ويخاطبه quot;يا شيخ إسماعيل هل هناك علاج للقاعدة كي لا تقتل الأبرياء؟quot;، فيرد إسماعيل وهو يبتسم quot;لو شرب عناصر القاعدة الخمر لتركوا أفكارهم جانبا، كما فعلت أناquot;، فيغرق الجميع بالضحك.

لكن المواطن هادي سلامة (مدرس 50 سنة) يطالب بمنع تناول المشروبات الكحولية في الحدائق العامة.

ويقول سلامة في حديث لـquot;السومرية نيوزquot; إن quot;التعاليم الإسلامية تحظر بيع أو تناول الخمر، ونحن مجتمع إسلامي وينبغي الالتزام بالتعاليم الدينية وعدم تجاوزهاquot;.

ويضيف سلامة أن quot;الكثير من الأسر القريبة من منطقة الحدائق المحيطة بنهر سارية تعاني من الضجيج الذي يثيره السكارى في ساعات متأخرة من الليلquot;، داعيا إلى quot;إيجاد حل لهذا الأمرquot;.

الحرية الشخصية التفاف على التعاليم الإسلامية
أما المواطن سعدي جعفر (موظف متقاعد) فيرى أن quot;تناول الكحول على مرأى ومسمع من المارة وفي الحدائق العامة عمل خاطئ يسيء للمجتمعquot;، مشيرا إلى أن القول بأن quot;ذلك حرية شخصية التفاف على التعاليم الإسلامية التي ينبغي الالتزام بهاquot;.

من ناحيته يقول سامر جرجيس (صاحب محل لبيع المشروبات الكحولية في بعقوبة) إن quot;استقرار الأوضاع الأمنية أسهم بانتعاش تجارتنا، وهناك طلب متزايد بشكل تصاعدي. لكن هذا الطلب ينخفض في المناسبات الدينية المعروفة ويزداد مع الأعيادquot;.

ويستدرك جرجيس قائلا لـquot;السومرية نيوزquot;، quot;لكننا لا زلنا نخشى هجمات الجماعات المتطرفة التي تبعث برسائل تهديد ووعيد بين الحين والآخرquot;.

ويوضح جرجيس أن quot;الأشهر الماضية شهدت استهداف بعض محال الخمور في بعقوبة والمقدادية بعبوات ناسفة، لكننا نعتقد أن الأوضاع تحتاج إلى المزيد من الصبر حتى ينتهي الخطر، فلا زلنا حذرين في عملناquot;.

الزبائن يترددون في المجيء إلينا
أما هزار يزيدي (صاحب محل لبيع المشروبات الكحولية) فيقول quot;نحن نعمل بجوار أحد مقرات الأجهزة الأمنية وسط بعقوبة، الأمر الذي يشعرنا بالأمانquot;.

ويوضح يزيدي في حديث لـquot;السومرية نيوزquot; quot;هناك زبائن يترددون في المجيء إلينا باعتبارنا في محيط منطقة أمنية حساسة، لكننا نحاول التأقلم فالحذر مطلوب، ولا نريد أن نعرض أنفسنا للخطرquot;.

من جانبه يقول مستشار محافظ ديالى دلسوز الجاف أن quot;رأي إدارة المحافظة هو وضع سياقات منظمة وفق آلية قانونية لغرض منح إجازات مزاولة مهنة بيع المشروبات الكحولية في مدينة بعقوبة وضواحيها، وينبغي أن تكون تلك المحال بعيدة عن الأحياء السكنية ودور العبادةquot;.

ويوضح الجاف في حديث لـquot;السومرية نيوزquot;، أن quot;العراق الجديد وما فيه من تنوعات دينية وقومية تجعلنا ندرك انه لا يمكن حظر بيع المشروبات الكحولية، لأنها سوف تؤدي إلى بروز ظاهرة البيوتات التي تبيع الخمور بشكل سري، ثم تضاف لها ظاهرة الدعارة، لذا فإن منح إجازات رسمية لمزاولة مهنة بيع المشروبات الكحولية سيكون الأنسبquot;.

لكن الشيخ محمود الجبوري (إمام وخطيب مسجد جنوب بعقوبة) يقول إن quot;الدين الإسلامي كان واضحا في تحريم صنع وشرب الخمر. ونحن نعيش في مجتمع إسلامي لذا نرفض بيع أو ترويج تلك المواد في مناطقناquot;.

ويضيف الشيخ الجبوري في حديث لـquot;السومرية نيوزquot; انه quot;ينبغي أن يصدر قرار من قبل المسؤولين في إدارة ومجلس المحافظة بغلق جميع محال بيع الخمور من دون استثناءquot;.

تناول الخمر ليس ممنوعا بحكم القانون
من جهته يعتبر المقدم علي الطائي من شرطة مدينة بعقوبة أن quot;تناول الخمر ليس ممنوعا بحكم القانونquot;، مشيرا إلى أن quot;اغلب محال بيع الخمور تحمل إجازات مزاولة المهنة بشكل قانونيquot;.

ويستدرك الطائي في حديث لـquot;السومرية نيوزquot; قائلا quot;لكن إذا مارس المدمن على الكحول أي إزعاج أو اعتدى على حرية الآخرين فستتخذ بحقه الإجراءات القانونية فورا ومن دون أي ترددquot;.

ولفت المقدم الطائي إلى أن quot;الكثير من مدمني الكحول ممن يتسببون في إزعاج الناس في الحدائق أو الشوارع العامة يتم اعتقالهم وإيداعهم السجن، واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهمquot;.

وكان اغلب محال بيع المشروبات الكحولية في مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى نحو 55 كم شمال شرق بغداد قد تعرض إلى هجمات من قبل الجماعات المسلحة خلال فترة التدهور الأمني. فقد دمر أو أحرق العديد من تلك المحال، وقتل أصحابها. لكنها مع استقرار الأوضاع الأمنية بدأت تعاود نشاطها بشيء من الحذر والقلق خشية استهدافها من جديد.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن حضارة بلاد وادي الرافدين شهدت ومنذ السومريين صناعة أنواع عديدة من الخمور، فقد ورد ذكر أكثر من عشرة أنواع من البيرة كانت تصنع من الشعير حسب نوعه وحجم حبته، لدى السومريين، وكان العراقيون القدماء مولعين بصناعة quot;نبيذ التمرquot; الذي هو نوع من أنواع العرق غير المقطر، وكانوا يعتبرون الحانات أماكن الحكماء والعقلاء من عليّة القوم، وقد نظمت بعض الشرائع العراقية القديمة الضوابط لصناعة وتعاطي وبيع الخمور، كما كانت بابل مشهورة في عذوبة خمورها بين دول العالم القديم. كما اشتهرت بغداد في العصر العباسي بحاناتها، وكتب الشعراء في ذلك العصر أشهر قصائد التغزل بالخمر.