جامعة بغداد

يرى أصحاف كفاءات وخبرة عراقيون أن الظروف غير مناسبة لعودتهم إلى بلدهم بسبب انتشار الفساد والورتين الإداري، وكذلك ظاهرة الأجندات السياسية، فيما يقول البعض إن العراق يتعرض لحرب لإفراغه من عقوله.


ما زال الإحباط والشعور باليأس من جدوى العودة إلى العراق والمشاركة في مسيرته التنموية، يمنعان دكتور الفيزياء سليم الأسدي، المقيم فيألمانيا من العودة الى بلده، على رغم النداءات المتكررة التي تطلقها الحكومة على لسان مسؤوليها عبر وسائل الإعلام، وتحث فيها الكفاءات العلمية العراقية على العودة.

واستمرار الإحباط لدى الأسدي الذي التقيناهأثناء زيارته إلى العراق هذه الأيام، لم ينجم من فراغ. ففي زيارته الأخيرة الى بلده عام 2009، لم تتغير الصورة التي يحتفظ بها في عقله الباطن عن التعليم العالي ومراكز البحوث العراقية، فقد وجد الأسدي أن الجامعات التي زارها هي كثرة عددية من دون نوعية، إضافة إلى ضعف دورها البحثي والتوجيهي في المجتمع، الذي لا يتعدى دورًا تلقينيًا محصورًا في تدريس طلاب سيحملون شهادات تركن على الرفوف، ولا توظف بحوثهم وعقولهم في الاتجاه الصحيح، فهم بين امرين، إما ان يتحولوا الى عاطلين عن العمل او موظفين يموت طموحهم بمرور الوقت بينالروتين في دوائر ومؤسسات الدولة المختلفة من دون تسخير لما درسوه الا في مجالات ضيقة.

تفضيل أصحاب الثقة على أصحاب الخبرات

من الأسباب التي يٌرجع فيهاالأسدي أسباب عدم رجوع الكفاءات العلمية، لاسيما الباحثين منهم في مجالات الطب والهندسة والعلوم، إلى غياب مؤسسات البحث العلمي والتطوير، وغياب آليات تسويق البحوث والخبرات إلى مجالات التطبيق.

ويضرب الأسدي مثالاً على غياب دور الجامعات ومنتجات البحث العلمي عن قطاعات الإنتاج المختلفة، في ظل استيراد التكنولوجياوالمنتجات الصناعية والزراعية من الخارج.

وحتى في مجال العلوم الإنسانية،فليس ثمة مراكز بحوث سياسية أو اجتماعية تستغل أفكار الجامعيين وتأهلهم إلى المناصب الحساسة، مما تسبب في أّمية اجتماعية وسياسية واضحة في العراق، لا سيما بين المسؤولين والقادة الكبار، الذي يفضلون أصحاب الثقة من أقارب وأصدقاء على أصحاب الخبرات والكفاءات في المناصب البلدية والحكومية والأمنية والسياسية.

محاربة العقول
ويقول الباحث الأكاديمي في جامعة بغدادستار فرهود ان السنوات بعد عام 2003 شهدت مساع محمومة من أطراف خارجية وداخلية،إلى إفراغ العراق من علمائه وكفاءاته العلمية،عبرالاغتيال والتصفيات، والخطف على يد الجماعات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة والميليشيات الطائفية، مما أدى الى هجرة عشرات الآلاف منهم.

وتشير تخمينات مستقاة من وسائل الإعلام الىمقتل 350 عالمًا نوويًا عراقيًا وأكثر من 200 أستاذ جامعي في شتى المعارف العلمية المختلفة، وأن 80% من عمليات الاغتيال استهدفت العاملين في الجامعات، وأن نصف عدد القتلى يحمل لقب أستاذ أو أستاذ مساعد، كما إن أكثر من نصف الاغتيالات وقعت في جامعة بغداد، تلتها البصرة، ثم الموصل والجامعة المستنصرية.

ويقول ستار الذي يعدّ دراسة لجامعة بغداد حول طرق استثمار وتوظيف الكفاءات العراقية ان هناك قوى عملت وما زالت تعمل، على محاربةعقول عراقية تحت ذريعة انهم من quot;من بقايا النظام السابقquot;في محاولة لإقصاء الكثير من الشخصيات العلمية المشهود لها بالنزاهة والكفاءة.

ويتابع: بعد العام 2003، طُهّرت بعض الجامعات بطرق (ملتوية)، بدت وكأنها مشروعةلإبعاد أكاديميين لا ينتمون إلىالطائفة التي تشكل الأكثرية في المحافظة التي تقع فيها الجامعة.

القلق الأكبر: الأجندات السياسية والطائفية
وتشكل برامج قوى وأفراد يعكسون أفكارأحزاب سياسية ودينية،ويحاولون فرضها داخل المؤسسات التعليمية، لاسيما الجامعية منها، القلق الأكبر لمعظم أكاديمييالعراق ممن يتمنون العودة الى بلادهم.

ويتابع ستار: اخبرني بعض الأكاديميين العائدين الى العراق، انهم يرون تدخلاً سافرًا في شؤون الجامعات من قبل أحزاب دينية وسياسية، عبر محاولات التدخل في توجيهالإدارات او عبر فرض تقاليد أو ممارسة معينة لا تمت صلة إلى مهمة الجامعة.

ويقول احمد رسول ان والده (70 سنة) العضو في جمعيةالاثارين العراقيين والباحث في التاريخ القديم تعرض للاغتيال، وجاءت الإصابة في يديه، مما اضطرهالى ترك العراق منذ عام 2006.

وفي مقاربة واضحة مع أفكار الأسدي، يقول الدكتور أحمد حسين الذي درس الكيمياء في الهند ويعمل الآن مدرسًا في جامعة بغداد، ان البحوث في جامعات الهند تموّل من قبل شركات القطاع الخاص بغية استثمارها في تطوير تقنياتها ومنتجاتها.

توسع كمّي لا نوعي
وعلى رغم ارتياحه للتوسع (الأفقي) للجامعات في العراق، الا ان حسين ينتقد افتقارها الكثير من مستلزمات الدراسة الأكاديمية الرصينة، لا سيما في المجالات العلمية وبشكل خاص المختبرات، التي تشكل العمود الفقري في اية دراسة علمية.

وتعاني معظمالجامعات العراقيةمن ضعف الإنفاق على البحث العلمي. وتذهبغالبية الميزانيات المرصودة للتعليم العالي الىالرواتب والحوافر وآلة الفساد، بينما يذهب الجزء اليسير إلىتمويل البحوث العلمية.

الملاحظة التي يعتبرها حسين مهمة، أن غالبية جامعات العالم تشرك القطاع الخاص في دعم برامجها البحثية، لكنهذه تغيب في العراق تمامًا.

ويعزو حسين أسباب عزوف الكفاءات العراقية إلى العودة الى الروتين المستشري في دوائر الدولة، ووجود تناقص صارخ بين الواقع ودعوات العودة.

ويتابع: لي زميل دكتوراه في الفيزياء النووية، كان يتملكه الحافز الكبير لتوظيف خبرته ودراسته التي اكتسبها طوال عمله في كندا، لكنه حين عاد الى العراق لم يجد ما يساهم به سوى في مجال التدريس الجامعي فحسب، كما انه حين زار جامعات في بغداد والديوانية وكربلاء لاحظغياب مؤسسات البحث العلمي داخل الجامعات، اضافة الىضعف الأجهزة العلمية والمعدا. ويتابع حسين: الكوادر المتعلمة في العراق هي نتاج تعليم مؤسّس على التلقين فحسب.

عودة فاشلة
وفي عام 1976 عاد الدكتوراه في الهندسة الكيماوية كريم العلواني الى بغداد بعد سنوات من هجرته الى فرنسا بموجب تسهيلات ومكافآت قدمتها الحكومة العراقية وقتها إلى أصحاب الكفاءات الذين عادوا الى العراق بموجب القانون 154 لعام 1975حيث منح العائدون بموجبه سيارة وقطعة ارض وتسهيلات أخرى، إضافة الى تعيين مباشر في المؤسسات والجامعات العراقية.

لكن العلواني اضطر الى الهجرة من جديد منذ منتصف التسعينيات بسبب ظروف الحرب والوضع الاقتصادي المتدهور، وتدهور مستوى الجامعات العراقية، حيث هاجر الى ليبيا ليعمل هناك طيلة سنوات، حتى أتيح له زيارة العراق هذا العام.

أسباب اقتصادية وامنية
وفي جامعة بابل (100 كم جنوب بغداد) التي حققت نجاحات في مجال التوسع في الاختصاصات، الا انها مازالت جامعة تلقينية،بحسب الدكتور نادر الخفاجي الذي اكمل دراسته العليا في رومانيا في ثمانينيات القرن الماضي، لكنه غادر العراق عام 1992 الى اليمن كمحاضر في جامعاتها. ويشير الخفاجي الى ان هجرته الى اليمن لأسباب اقتصادية بسبب تدني الرواتب في ذلك الوقت وتدهور مستوى التعليم الجامعي، مما تسبب في هجرة الكثير من التدريسيين في الجامعات الى اليمن والأردن وليبيا.

ويضيف:ان الكثير من زملائه ممن يحملون شهاداتعليا من جامعات غربية هاجروا الى تلك الدول بغية الحصول على فرصة عمل فيها.

لا يعوّل الدكتور سليم الجبوري الطبيب الاختصاص في القلب والمقيم في ألمانيا على دعوة الحكومة العراقية الكفاءات الى العودة. ويضيف: بات الكثير ممن التقاهم يشكون بطأ (المعاملات الرسمية) والحصول على عمل مناسب على عكس ما يصرح به المسؤولون إلى وسائل الإعلام من ان الدولة توفر لهم تسهيلات العودة.

وبحسب الجبوري، فان مسالة عودةالكفاءات الطبية العراقية ترتبط اكثر من غيرها بالعامل الأمني، بسبب تواتر أنباءخطف وقتل أطباء من قبل عصابات مسلحة.

وبحسب إحصاءات جمعية الأطباء العراقيين العالمية، فان نحو عشرة الآف طبيب عراقي من مختلف التخصصات اضطروا الى الهجرة إلى الخارج، كما أغتيل نحو 400 آخرين داخل العراق.

أكاديميون: مصالح شخصية
ويقول الأستاذ الجامعي احمد عبيد، ان هناك من حاول استغلال الفوضى الإدارية والتعليمية في العراق عبر استغلال ما تقدمه الدولة من حوافر على العودة. ويتابع: هناك أساتذة من أصحاب الشهادات العليا وممن خدموا العراق لفترة طويلة، يعودون الى البلد لمصالح شخصية ضيقةولفترة مؤقتة، بغية الرجوعالى وظائفهم السابقة واحتساب مدة الخدمة، وما ان يتحقق ذلك، حتى يعودوا الى بلدان المهجر على رغم حاجة العراق الماسة إليهم.

ويشير الى أعداد من الأساتذة التي قدمت لهم جامعة بغداد والجامعات الأخرى سبل العودة والتعيين، واحتساب رواتب جيدة لهم، لكنهم للأسف ، دفعت بهم أغراضهم الشخصية الى ترك الجامعات بعدما حققوا ما يريدونه من منافع شخصية.

أما ليث الشمري (ماجستير هندسة مدنية) فقد مضى على عودته من النرويج نحو السنتين، من دون ان ينجح في الحصول على عمل. يتابع الشمري: مازلت انتظر، وربما اضطر إلى العودة الى المهجر إذا ما استمر الوضع الحالي على ما هو عليه الآن.

غياب فرص العمل
ويشير كاظم ساجت من جامعة كربلاء (108 كم جنوب غربي بغداد) الى انمعظم أصحاب الكفاءات يزجّ بهم في سلك الجامعات فحسب، فهذا هو المجال الوحيد للاستفادة من خبرتهم، بسبب انعدام الحلقة التي تربط البحث العلمي بالإنتاج، مما لا يتيح للعلماء والمهندسين الحصول على فرص عمل في مواقع الإنتاج التي تخلو في غالبيتها من مراكز بحثية تخدمها.

وأدت هجرة العقول العراقية إلى الخارج طيلة عقود إلى تأخر مشاريع التنمية، وانحسار دور الأكاديميصاحب الكفاءة، وتبوأ أشخاص غير مشهود لهم بالكفاءة، إدارة الجامعات والمؤسسات التعليمية، إضافة إلى اضمحلالالعلاقة بين مؤسسات البحوث ومراكز الإنتاج.