بعد قرابة عشرين عاماً انقضت على مقتل فتى أسود على يد عصابة من مراهقين بيض في لندن، أدين اثنان من القتلة وحكم عليهما بالسجن المؤبد بعد توافر الدليل الدامغ ضدهما. لكن هذه القضية صارت الأشهر في تاريخ بريطانيا المعاصر بسبب الأبعاد الهائلة التي اتخذتها طوال تلك السنين.


محطة الباص التي شهدت الجريمة العنصرية

لندن: في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 انعقدت محكمة الأولد بيلي اللندنية للجرائم الخطرة لمحاكمة رجلين اتهما - مع ثلاثة آخرين - بقتل المراهق البريطاني من أصل كاريبي، ستيفن لورنس، قبل ذلك التاريخ بقرابة عقدين من الزمان.

وصارت هذه القضية علامة فارقة في تاريخ العدالة البريطانية، واتخذت لها مكانًا خاصًا في ضمير الأمّة لأنها، بين أشياء أخرى، أوضحت أن إخفاق الشرطة في القبض على الجناة - رغم ما توافر لديها من أدلة - كان بسبب اللامبالاة في أفضل الأجوال، ومتعمدًا في أسوئها. وكان هذا لأن الضحية أسود، وقاتليه بيض.

وفي الثالث من الشهر الحالي - بعد أدلة علمية مبنية على فحوصات الحمض النووي laquo;دي إن ايه قدمها الاتهام ومرافعات مطوّلة - قضت هيئة محلفين من 12 شخصًا بأن المتهمين مذنبان بقتل لورنس. وفي اليوم التالي حكم القاضي عليهما، وهما غاري دوبسون وديفيد نوريس، بالسجن المؤبد لكل منهما. وقضى بأن يمضي الأول فترة لا تقلّ عن 15 عامًا وشهرين، قبل النظر في ما إن كان يحقّ له التماس تخفيف العقوبة، والثاني 14 عامًا و3 أشهر، قبل حصوله على الحق نفسه.

عنصرية المؤسسات

رغم أن جرائم القتل في بريطانيا - بما فيها العنصرية - تكاد أن تكون جزءًا مألوفًا من ثقافة البلاد، فقد اتخذت قضية لورنس أبعادًا خاصة لها، جعلتها بين الأشهر في تاريخها المعاصر. والسبب في هذا هو أن والدي الفتى القتيل - وخاصة والدته دورين - أنجزا بإصرارهما العنيد على العدالة ما كان يحزّ في نفوس غير البيض بدون قدرة على إثباته، وهو أن الشرطة نفسها تعاني العنصرية المؤسسيةحتى العظام.

ما يعنيه هذا هو أن كيان الشرطة نفسه والثغرات في لوائحها الداخلية وممارستها على أرض الواقع، وما يبدو من إسراعها لحماية البيض، وتلكؤها في فعل الشيء نفسه مع غيرهم جعلت منها - كإحدى أهم مؤسسات الدولة - متصفة بالعنصرية في مجتمع متعدد الأعراق، ويفترض أن تنال سائر فئاته رعايتها بأقدار متساوية.

خلفية

المؤبد لغاري دوبسون (اليمين) وديفيد نوريس
في إبريل/ نيسان 1993 كان الضحية ستيفن لورنس، وهو مراهق أسود في التاسعة عشرة من عمره، ينتظر الباص في إحدى محطاته في حي إيلتنام، في جنوب شرق لندن، مع صديق له. فوجد نفسه محاطًا فجأة بخمسة مراهقين بيض شتموه بأبشع الألفاظ، وسددوا له طعنات قاتلة بعد تمكن صديقه من النفاذ بجلده.

واتضح لاحقًا أن هذه الجريمة ارتكبت فقط لأن لورنس أسود، وأن أي أسود آخر في مكانه كان سيجد المصير نفسه.

ورغم أن صديق لورنس استدعى الشرطة فورًا إلى مسرح الجريمة، التي لم تستغرق أكثر من عشر ثوان، فقد تلكأت في توفير إسعافاته الأولية حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وبدلاً من تعقب القتلة، راحت تستجوب صديق الضحية نفسه، موحية بأنه هو الجاني الحقيقي. ثم مضت لترتكب سلسلة من الأخطاء الفادحة، التي بدأت فصلاً سيعرّي لاحقًا خطيئتها الكبرى، وهي العنصرية المؤسسية.

فقد انهالت عليها بلاغات الشهود، التي لم يحدد بعضها عدد الجناة ولونهم وحسب، بل هوياتهم بأسمائهم وعناوينهم. ورغم ذلك، فلم تفعل شيئًا على مدى أسبوعين لاستجوابهم. وكانت هذه فترة كافية تسمح لكل منهم بالتخلّص من الأدلة التي يمكن أن تدينه.

أهم منعطف في تاريخ العدالة الجنائية

مع هذه الحال، أجبر والدا الضحية على رفع شكوى إلى لجنة مستقلة معنية بالتحقيق في أداء الشرطة. ولأن هذه الأخيرة هي المسؤولة عن وصول الاتهامات إلى مكتب المدعي العام، الذي يقاضي المتهمين باسم الدولة، فقد وصل اليأس بالوالدين إلى حد استئجار محام، يرفع دعوى خاصة على المتهمين.

لكن نقص الأدلة كان كافيًا لإحباط هذا المسعى. وفي هذا الصدد فقد عُلم لاحقًا أن الشرطة نفسها هي التي أضاعت هذه الأدلة. فملابس الجناة أُضيع بعضها، وخُلط بعضها الآخر في مختبراتها مع ملابس متهمين في قضايا أخرى. وهكذا صار ممكنًا القول (من قبل محامي المتهمين) إنها ملوّثة بما يعود إلى آخرين غيرهم.

دورين والدة لورنس... درس في المثابرة من أجل العدالة
على أن مثابرة الوالدين، وخاصة الأمّ، لم تحبط بسبب كل هذا. فاستغلا كل المنابر الممكنة، مثل الإعلام وجماعات حقوق الإنسان، لاتهام الشرطة صراحة بالعنصرية، وقدما التماسات إلى وزير الداخلية ورئيس الوزراء ونائب دائرتهما البريطانية ولجنة الشكاوى مجددًا.

وفي 1999 أثمرت هذه الجهود عن تأليف لجنة عُرفت باسم رئيسها laquo;مكفيرسونraquo;. فتوصلت، بعد تحقيقات واسعة النطاق، إلى الحقيقة الساطعة، التي حددتها بالاسم، وهي أن الشرطة laquo;مؤسسة عنصريةraquo;.

رفعت هذه اللجنة المستقلة في تقريرها النهائي عددًا كبيرًا من التوصيات، التي قالت إنها لازمة لتصحيح بنية الشرطة وطريقة أدائها وعلاجها من داء النعصرية. لهذا فقد صار هناك إجماع على أن تقريرها هو laquo;أهم منعطف في تاريخ العدالة الجنائية في بريطانياraquo;.

التركة

الآن يظل ثلاثة آخرين شاركوا في جريمة القتل طلقاء. وهذا ليس بفضل القناعة ببراءتهم، وإنما بسبب غياب الدليل الذي يدمغهم، لأن الشرطة لم تتحرك حين كان يجب عليها التحرك. لكن إدانة اثنين منهم، وتلقيهما العقاب المستحق بعد انقضاء عقدين من وقت الجريمة، تأتي باعتبارها فصلاً في رواية طويلة، وليس الرواية بكاملها.

الضحية ستيفن لورنس
والواقع أن قضية ذلك الفتى الأسود صارت رمزًا لنوع العسر، الذي يمكن أن يلم بأمّة متعددة الأعراق، والتمييز الذي يمكن أن يعانيه أهل الأقليات على يد الغالبية.

وصارت أيضًا مثالاً للثمر الذي يجنيه أولئك الذين يسبحون ضد التيار العام عندما يكون في الاتجاه الخطأ. لكنها فتحت الأعين - قبل كل شيء - على أن حماة العدالة ليسوا بالضرورة كذلك.

بريطانيا - المؤسسة تلعق الآن جراحًا مؤلمة، يتبدى عمقها في أن قضية لورنس والحكم بسجن اثنين من قاتليه، يستأثران ببقعة الضوء الإعلامي كلها، بحيث صارت بقية الأحداث، سواء في بريطانيا نفسها أو بقية العالم، غير مرئية تقريبًا.