مع صعود نجم الإسلام المتشدد وانفراد تنظيماته بقطف ثمار الثورات الشعبيّة، يثير الدور الذي تمارسه قطر في دعم الثورات العربيّة إعلاميًّا وماديًا وعسكريًا علامات استفهام حول الأهداف التي تسعى إمارة الغاز إلى تحقيقها. النبرة القطرية العالية تحدث استياء داخليًا وعربيًّا، وتكسبها أعداء جددًا.

صورة لأمير قطر رفعها الثوار الليبيون في بنغازي

بيروت: تبدو قطر اللاعب الأبرز في دول الربيع العربي، فتخطف الأضواء من قوى إقليميّة، وحتى عالميّة، لطالما كان لتدخلها تأثير كبير في تغليب جهة على أخرى، لتنتقل (قطر) من دولة تحمي الشعوب من بطش الأنظمة إلى دولة ذات أهداف مدروسة ومصالح تسعى إلى تحقيقها، ولعل أبرزها خلط التحالفات، التي كانت سائدة مع الحركات الإسلاميّة المتشددة في المنطقة، والتي تنفرد بقطف ثمار الثورات العربيّة حتَّى الساعة.

مع اتساع رقعة الثورات، وامتدادها من ليبيا إلى سوريا، يتعاظم النفوذ القطري في العالم العربي، وسط أنباء مفادها أنّ قطر نقلت عتادها العسكري من ليبيا إلى سوريا، وقد تكون تسعى حاليّا إلى نقل مقرّ الجامعة العربيّة نفسه إلى الدوحة.

ركائز النفوذ إعلام ومال وسلاح
من تونس إلى طرابلس فدمشق، تعزّز قطر نفوذها، مستعينة بشتّى الوسائل الدبلوماسيّة والعسكرية والاقتصادية والإعلامية المتاحة. إلا أنّ الدور المتعاظم، الذي تلعبه هذه الإمارة، بات يأخذ اتجاهات جديدة، تتعارض مع التصريح الذي أدلى به أمير قطر لصحيفة فايننشل تايمز في تشرين الأول (أكتوبر) 2010، حين قال quot;نحن نهتم بالتعليم والصحة والاستثمارات الخارحيّة، ونسعى إلى البقاء بعيدين عن الصراعات والقضايا العسكرية. بالتالي نسعى دائمًا إلى التوسط في الأزمات من دون اتخاذ موقف إلى جانب هذا المعسكر أو ذاكquot;، وفق صحيفة quot;لوفيغاروquot; في عددها الصادر يوم الخميس.

إعلاميّا، اختلاف النبرة القطرية منذ تصريحات أميرها ولغاية اليوم بات جليًا، وتبرز السياسة القطرية المستحدثة حيال قضايا المنطقة عبر الدور الذي تمارسه قناتها الإخباريّة quot;الجزيرةquot;، التي تبثّ الرعب في النفوس. وينقل كاتب المقال جورج مالبرونو عن شخصيّة عربيّة بارزة اعترافها بالخوف من التهديد الإعلامي القطري قائلة quot;أخشى أن تصوّب الجزيرة سهامها إليّquot;.

إذًا، بفضل قناتها الإخباريّة، تحوّلت قطر من استخدام الأسلوب الناعم إلى تبني قبضة خشنة حيال قضايا المنطقة العربيّة، فأرسلت الأسلحة والخبراء العسكريين إلى الثوار في ليبيا، وقدمت إليهم كامل دعمها، إلى أن حققّت الثورة الليبية النصر، فانتقلت القبضة القطريّة إلى سوريا.

أمّا في الجانب الاقتصادي، لم تبخل قطر باستخدام دبلوماسية دفتر الشيكات. ويعترف مسؤول مغربي: quot;سبق أن أغلقنا مرارًا مكتب قناة الجزيرة في الرباط، بسبب الاختلاف معهم، لكننا قد نعيد فتحه قريبًاquot;، لافتًا إلى أنّ أمير قطر اشترى أخيرًا قطعة أرض بمساحة 34 ألف هكتار، واستثمر 4 مليارات دولار في مشروع سياحي في منطقة تقع بين الرباط والدار البيضاء.

ويضيفquot; نحن بحاجة إلى أموالهمquot;. ويفسر كاتب المقال كلام الشخصية المغربية بأنّه عبارة عن quot;رسالة مزدوجة تبدو موجّهة إلى القطريين المستائين من الموقف الدبلوماسي العدائي الذي تنتهجه بلدهمquot;.

عسكريّا، لا يخف على أحد الدور الذي انفردت قطر بتأديته في دعم الثورة الليبيّة، فكانت إلى جانب دولة الإمارات الوحيدة، التي شاركت في التدخل العسكري الذي قاده الناتو.

وبينما تردد الغرب في تسليح الثوار، سارعت قطر طوعًا إلى تدريب الثوار قليلي الخبرة، وأرسلت بموافقة أجهزة الاستخبارات الغربية ما لا يقلّ عن 20 طن من الأسلحة القطرية إلى الثوار الليبيين.

وتلفت لوفيغارو إلى أنّ الأسلحة القطريّة الموجّهة إلى الثوار كانت تذهب بشكل أساسيّ إلى الجماعات الإسلاميّة الليبية عبر ضيف قطر السابق الشيخ quot;علي الصلابيquot;.

بالتزامن، كانت حقائب الأموال تدور على القبائل، حيث أوفدت الإمارة، التي لا يبلغ عديد جيشها 15 ألفًا، بثورة مصغرة عبر إيفاد آلاف الرجال إلى طبرق، ومن ثم إلى جبل نفوسة. ومذ سكت صوت المدفع في طرابلس، تشرف قطر على التحالف العسكري الجديد على الأرض، بالرغم من تنديد اللبيبيين والغربيين بالتدخل القطري المستمر.

ويكشف الكاتب مالبرونو أنّ قطر شرعت أخيرًا في عملية خطرة لاسترداد أسلحتها من ليبيا، ونقلها إلى سوريا، حيث تتطلع الدوحة إلى تكرار quot;مغامرتها الليبيةquot; عبر إنشاء منطقة حرة بالقرب من مدينة إدلب السوريّة، quot;حتى ولو على حساب إغضاب الأتراكquot;.

ما هي الوجهة الجديدة؟
الضفدع والبقرة
يثير السلوك الذي تنتهجه قطر في المنطقة العربيّة مخاوف في أوساط شركائها، الذين يهمسون متسائلين quot;ماذا لو أصبح الضفدع أكبر من البقرة؟quot;. ويشكو مسؤول فرنسي من التدخل القطري المستمر قائلاً quot;يريد القطريون حشر أنوفهم في كل شيءquot;، ويتابع quot;بما في ذلك اقتراح تمويل التعاون العسكري لما تقدمه بعض الدول مثل الأردن إلى ليبياquot;.

وتشير لوفيغارو إلى أنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لم يتردد في نقل انزعاج الفرنسيين من التدخل القطري المستمر إلى أمير قطر لدى استقباله في الخريف الماضي.

بدوره، تخوّف مندوب ليبيا في الأمم المتحدة عبد الرحمن شلقم من أن يفسد القطريون العلاقة الجيدة بين بلاده والدوحة، متذمرًا من التدخل القطري المستمر في ليبيا. وقال شلقم إنّ quot;جنون العظمة القائم على الوهم يتجه إلى المنطقةquot;.

وفي نهاية شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، لم ترحّب سلطات تونس برغبة الأمير في زيارة البلاد لحضور الجلسة الإفتتاحية لـquot;الجمعية التأسيسيةquot;. وحتى الإسرائيليون رفضوا عرضاً قطرياً لإعادة فتح مكتبهم الديبلوماسي في الدوحة.

علاوة على القبائل المحافظة، تثير السياسة القطرية قلق أعضاء في العائلة الحاكمة. وتنقل الصحيفة عن رجل أعمال مرموق في قطر قوله إن quot;عدداً من أبناء الأمير ينتقدون تمادي قطر في سياستها، ويخشون أن يتحوّلوا إلى أهداف في بلدان عربية يترددون عليها، وبينها لبنانquot;.

في المقابل، تتصدى الولايات المتّحدة الأميركيّة لأي محاولة عربيّة للحد من النفوذ القطري، وخصوصًا أن هذه الأخيرة تحتضن قرب عاصمتها الدوحة قاعدة أميركية عسكرية، تضمن حفظ الولايات المتحدة لأمن قطر، ما يزيد المسؤولين العرب اقتناعًا بأن المدّ القطري ما كان ليحصل إلا برضا الولايات المتحدة.

وينقل الكاتب عن الصحافي علي صبري قوله إن quot;الأميركيين بحاجة إلى طرف وسيط ليتعامل مع مرحلة ما بعد الثورات في العالم العربيquot;. بل وحتى أبعد من العالم العربي، حيث إن حركة طالبان قررت فتح مكتب تمثيلي لها في قطر، بغية التفاوض مع الأميركيين.

نبرة عالية
ما أسباب التغيير في السياسة القطريّة؟، تنقل الصحيفة عن الشيخ يوسف بن جبر، وهو أحد المقرّبين من رئيس الوزراء الشيخ حمد بن جاسم قوله إنه quot;في ليبيا، كان القذافي يقتل شعبه. والوضع مماثل في سوريا. ولم يكن بوسعنا البقاء مكتوفي الأيدي. لكن، من الخطأ القول إنّنا نوجّه الجامعة العربية أو إننا أصبحنا متعجرفين. كل ما في الأمر هو أننا نعبّر عن أفكارنا بقوّة. وليتبعنا من يريدquot;.

إلا أنّ هذه التصريحاتلم تلق ترحيبًا لدى الدبلوماسيين العرب، الذين باتوا يشعرون بالتعنيف من اللهجة القطرية العالية النبرة. ويوضح مسؤول مغربي مصعوقًا quot;لم نشهد أبدًا في اجتماعات الجامعة العربية مثل هذا العنف الموجود الآن لدى قطرquot;، ويسرد ما حدث في اجتماع الرباط حين وجّه رئيس الوزراء القطري تهديدًا علنيًا إلى المندوب الجزائري المعارض للعقوبات على سوريا، قائلاً quot;إخرس! ستكون التالي على اللائحةquot;.

قطر تترأس جامعة الدول العربية
مقر جديد لجامعة الدول العربية؟
يكشف وزير الخارجية الإسباني السابق ميغيل أنخيل موراتينوس، الذي دعي أخيرًا إلى حضور مؤتمر دولي في الدوحة، أنّ quot;مصر لا تزال في مرحلة الثورةquot;، فيما quot;تسعى قطر إلى نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى الدوحةquot;.

اللعب بالنار
تشير لوفيغارو إلى تفصيل إضافي، قد يكون خير مؤشّر إلى الأهداف القطريّة: افتتح أمير قطر، الشيخ حمد آل ثاني في quot;الدوحةquot; مسجدًا يحمل اسم quot;مسجد الإمام محمد عبد الوهابquot;. يتزامن الحدث مع إشارة أخرى موجّهة إلى quot;الفئة الأكثر تشددًا في إمارة الغازquot;، من خلال حظر بيع الكحول في مطاعم quot;جزيرة اللؤلؤةquot;، وهي مشروع عقاري بكلفة 20 مليار دولار، تمّ تشييده لاستضافة كأس العالم لكرة القدم في العام 2022.

لم يصدر أي تفسير رسميّ للقرار، ما دفع المراقبين إلى تكهن الأسباب الكامنة وراء فرض السلطات الحظر في منطقة، سيكون معظم روّادها من الأجانب. ويفسّر ديبلوماسي في قطر القرار بالإشارة إلى روايتين: quot;الأولى تتحدث عن أشخاص نزلوا من إحدى اليخوت بملابس غير لائقة، بعدما أكثروا من شرب الكحولquot;، بينما تشير الرواية الثانية إلى أنّ شخصًا تجوّل في الشارع بلباس quot;بابا نويلquot;.

وتحوّلت قطر في منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي، إلى راع أساسيّ لما يعرف بـ quot;الإسلام السياسيquot;، الذي خرج منتصرًا في الانتخابات التشريعية في كل من تونس ومصر والمغرب. ولا تتوانى قطر عن تمويل حركة حماس الفلسطينية علنًا، شأنها في ذلك شأن quot;حركة النهضةquot; في تونس، وحركة quot;الإخوان المسلمينquot; في مصر.

وقد صرّح أمير قطر في مطلع أيلول (سبتمبر) الماضي عبر الجزيرة قائلاً إنّ quot;الإسلام الراديكالي، الذي تكوّنت أفكاره في عهد أنظمة استبداديّة، قد يتطور، إن شارك في السلطة، إذا ما حققت الثورات وعودها بالديمقراطيّة والعدالةquot;.

وتتساءل لوفيغارو: هل سيواصل الإسلاميون الراديكاليون الإصغاء إلى نصائح أصدقائهم في الدوحة حينما يمسكون بالسلطة؟.

ولي العهد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني
تنقل الصحيفة عن quot;سلمان الشيخquot;، وهو مدير مكتب قطر لمؤسسة quot;بروكينغزquot; إن القطريين quot;على يقين بأن مركز الثقل في العالم العربي ينتقل باتجاه الإسلام المحافظ. وثبت أن سياستهم القائمة على محاورة المنشقين الإسلاميين أو احتضانهم كانت رابحةquot;. يضيف quot;اليوم، السياسة الرابحة هي في تفضيل الحكومة الانتقالية في ليبيا ومصر بدلاً من تقديم الدعم إلى فصيل أحاديّ اللونquot;.

فإذا كانت العلاقات الحميمة بين قطر والإسلام الراديكالي قد شكّلت للقطريين درعًا واقيًا من هجمات تنظيم القاعدة الإرهابيّ، فإنّ مواقفهم الأخيرة أكسبتهم أعداء جددًا.

تساور القطريين مخاوف يعكسها سعيولي العهد الأمير تميم إلى تجهيز طائرة quot;الإيرباصquot;، التي يملكها، بمنظومة متقدمة تحميها من هجمات صواريخ أرض-جو، وهي الصواريخ نفسهاالتي اختفت أخيرًا في ليبيا.

وعلى المدى البعيد، فمن المؤكد أن الأمير المقبل يخشى من أن يجد نفسه مضطراً للتعامل مع العواقب السلبية والناتجة من quot;حب الظهورquot; لدى والده، وهي نزعة يعتبرها الأمير تميم محفوفة بالمخاطر.