سقط نظام الطاغية، وقتل العقيد القذافي، وانتصرت الثورة، لكن المواطن الليبي ما زال يشكو نقص الحرية والأمن، بعدما لمس عجز حكومته عن بسط سلطاتها على كامل البلاد، بسبب ميليشيات هي من سلَّحها واعتمد عليها في نشر الأمن.


تقول دعابة متداولة في مقاهي العاصمة الليبية طرابلس هذه الأيام إن الطريق الوحيد إلى الجنّة هو طريق المطار الدولي. فما زال الليبيون عمومًا يتمتعون بالحرية، ويعترفون بالآفاق التي فتحها سقوط نظام العقيد المقتول معمّر القذافي قبل عامين بانتفاضتهم المدعومة من حلف شمال الأطلسي.

لكن المقاتل عوض، الذي أصبح حارسًا أمنيًا، يقول: quot;في السابق، عندما كان يختفي أحدهم، كنا نعرف أن أجهزة القذافي تحتجزه، أما الآن فلا نعرف أين يكونquot;. وتأكد ما يقوله عوض في وقت سابق من أيلول (سبتمبر) الجاري، عندما أعلنت الحكومة أن مجهولين خطفوا العنود السنوسي، ابنة رئيس استخبارات النظام السابق عبد الله السنوسي، ثم اكتشفت أن أحد أجهزتها كان وراء عملية الخطف، فأُفرج عنها بعد أيام.

التحدي الأمني
تواجه ليبيا الآن أصعب امتحان لها منذ سقوط النظام السابق، إذ لم تتمكن قوة أو حزب سياسي من بسط سلطة الدولة كاملة على القبائل والمناطق والمكونات. ومنذ أسابيع، سيطر عمّال غاضبون وميليشيات مستاءة على مرافئ استراتيجية لتصدير النفط.

وتشهد ليبيا موجة من الاغتيالات وخطف السيارات، كما انقطعت الكهرباء وإمدادات الماء عن العاصمة طرابلس طيلة أيام. وفي 11 أيلول (سبتمبر)، تم إبطال مفعول عبوة ناسفة في طرابلس، وانفجرت أخرى في بنغازي، مهد الانتفاضة. وليس مستغربًا في مثل هذا الوضع أن يكون الأمن مطلب الليبيين، والتحدي الأكبر الذي تواجهه الحكومة.

وقال أنس القماطي، مدير مؤسسة صادق للأبحاث في طرابلس، لمجلة إيكونومست: quot;يمكن القول إن الحكومة هي التي تعمل عند الميليشياتquot;. وبدأت السلطات الليبية، بمساعدة غربية، في بناء جيش وطني وشرطة وطنية، من المفترض أن يتسلما مهمة حفظ الأمن من الميليشيات، التي تتقاضى الآن رواتب من الدولة مقابل الاضطلاع بهذا الدور، وخصوصًا اللجنة الأمنية العليا المؤلفة من مقاتلين سابقين، وتقوم بدور الشرطة الموقتة، وجماعة quot;درع ليبياquot; شبه الرسمية.

برقة المستقلة
لكن رئيس اللجنة الأمنية العليا في طرابلس هاشم بشر يقدر أن ثلث عناصر هذه الجماعات يرفض إلقاء السلاح والخضوع لسلطة قوى أمنية جديدة. وترفض الجماعات الإسلامية بصفة خاصة حلّ نفسها بدعوى خشيتها من التعرّض للملاحقة والقمع، كما قُمعت في زمن القذافي.

لهذه الأسباب مجتمعة، تبدو قدرة الحكومة على حفظ القانون والنظام خارج طرابلس ضعيفة، quot;بل ضعيفة في طرابلس أيضًاquot;، بحسب كلوديا غازيني، من مجموعة الأزمات الدولية، ومقرها بروكسل.

أسطع مثال على هذا الضعف هو عجز السلطات عن إنهاء سيطرة الميليشيات على الموانئ، وما أدى إليه ذلك من انخفاض في صادرات النفط إلى أقل من عُشر صادرات ليبيا، التي كانت تبلغ قبل الانتفاضة، أي 1.6 مليون برميل في اليوم. ويبدو أن بعض الجماعات تحاول بيع النفط لتمويل حملة من أجل إعلان إقليم برقة الفيدرالي في شرق ليبيا وعاصمته بنغازي. لكن جماعات أخرى تحتجّ على عدم كفاءة الحكومة بصفة عامة.

صدام مع الإسلاميين
وكان المؤتمر الوطني العام أصدر في أيار (مايو) الماضي قانون العزل السياسي، بضغط من ميليشيات حاصرت وزارات الحكومة. وترك تحالف القوى الوطنية، الذي يضم في صفوفه العديد من المشمولين بالقانون من ذوي الخبرات والكفاءات التي لا غنى عنها، ترك السيطرة على المؤتمر الوطني العام للإسلاميين.

وتصاعدت حدة التوتر مع الإسلاميين منذ الاجتماع الودي، الذي عقده رئيس الوزراء علي زيدان، المدعوم من الليبراليين، مع قائد الجيش المصري الفريق عبد الفتاح السيسي، الذي يتهمه الإخوان المسلمون بعزل الرئيس محمد مرسي بانقلاب عسكري. والآن يطالب حزب العدالة والبناء، الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، باستقالة زيدان.

ويندد الإسلاميون بأعضاء الأحزاب الليبرالية بوصفهم أزلام نظام القذافي، فيما بدأ الليبراليون يحذرون من تعاظم سطوة الإسلاميين المتطرفين. ولم تُنتخب حتى الآن جمعية تأسيسية لكتابة الدستور الجديد، وما زالت المرأة وأقليات، مثل البربر، ليست ممثلة تمثيلًا كافيًا.

وامتنع المستثمرون عن المجيء إلى ليبيا، بعدما كانوا قبل عام يتوقعون أن تكون بلد الفرص الاستثمارية المغرية. وقالت إحدى الشركات الأجنبية إنها ستدفع مليوني دولار إضافية على عقد قيمته 25 مليونًا لضمان أمن عمالها وموظفيها.

حمى قبل الشفاء؟
لكن الوضع ليس ميئوسًا منه. فقبائل الشرق منعت منطقتها من الخروج عن سيطرة الحكومة بالكامل. وتتولى مجالس بلدية إدارة الخدمات وتوفيرها في مدن عديدة، بما في ذلك المستشفيات والمدارس.

وقال جبريل رائد، عضو مجلس مدينة مصراتة لمجلة إيكونومست: quot;ليس من الضروري أن ننتظر الحكومة كي تتخذ قرارات أو تعطينا موارد ماليةquot;. ومصراتة واحدة من مدن ليبية عدة تعمل مجالسها على بناء مؤسسات من القاعدة إلى القمة. وأسفرت حملة تبرعات بين رجال الأعمال في المدينة عن جمع ما يكفي لتجديد الطريق الرئيس، وبناء صالة جديدة في مطار مصراتة.

وتعتقد غالبية الليبيين أن التوصل إلى توافق اجتماعي سيمنع تفاقم الفوضى إلى حد تفكيك البلد. ويرى البعض أن النزاع على النفط قد يدفع الحكومة وخصومها إلى القبول بحلول توافقية تنهي الاقتتال، بينما تتزايد قوة الأصوات المطالبة بحوار وطني. وقال دبلوماسي مقيم في بنغازي: quot;آمل أن تكون المتاعب الحالية الحمى التي تنتاب المريض قبل أن تتحسن حالتهquot;.