كل شيء في مصر يسير بلا منطق ولا فلسفة، مرة تصدر مراسيم بإضافة محافظات جديدة، وأخرى بإلغاء وزارات وإنشاء وزارات جديدة. أما فيما يتعلق بالتغيير الوزاري المقبل، فلا يملك مصدر رسمي مهما كان مقربا من السلطة معلومات عن الحكومة الجديدة، كما أن ما تطرحه الصحافة يظل مجرد توقعات تعبر عن اراء أصحابها، حتى رئيس الوزراء نفسه لا يعرف إذا كان باقيا في السلطة أم سيرحل، فلا احد لديه الخبر اليقين عن التعديل المرتقب اللهم إلا إذا كان الرئيس مبارك شخصيا قد أبلغه به وبتفاصيله.


لقد عرف عن الشعب المصري الفذلكة، والحديث في أي شيء، وكأنه عالم بتفاصيله، فالكل يتحدث عن تغيير وزاري شامل، بعد إقالة وزير النقل محمد لطفي منصور في أعقاب حادث قطار العياط، وقد زادت التوقعات بقرب حدوث التغيير الوزاري بعد لقاء الرئيس مبارك مع المهندس سامح فهمي وزير البترول الأسبوع الماضي في قصر الرئاسة، ولم يدلِ الرجل بأي تصريحات فارتفعت التكهنات بأنه قد يرأس الحكومة المقبلة، على الرغم من أن توقعات سابقة قالت إنه سيخرج من الحكومة في أقرب تغيير وزاري.


لا احد بالتالي بمكانه التبوء بهذا التغيير المرتقب إلا مع بدء استقبال رئيس الوزراء للمرشحين قبل أداء اليمين الدستورية بساعات أو أيام. يحضرني هنا فيلم quot;معالي الوزيرquot; للمخرج سمير سيف والراحل احمد زكي، وهو يحاكي صورة التخبط في عملية اختيار الوزراء، ففي الفيلم يتم اختيار رأفت رستم كي يكون وزيرا عن طريق الخطأ لمجرد تشابه اسمه مع اسم أستاذ جامعي مرموق كان مرشحا للمنصب، وينجح مدير مكتب رئيس الوزراء في إقناعه بقبول رأفت رستم حفاظا على مصداقيته أمام الرئيس، ويؤدي هذا الشخص الخطأ اليمين الدستورية، وينجح في البقاء في منصبه لفترة طويلة إلى أن تطارده الكوابيس المتلاحقة، وتصبح مرضاً يلازمه وهو ما ينعكس على أفعاله وتصرفاته.


ويبدو أن الصحف تريد أن تحقق سبقا صحفياً بعيد المنال في ظل السرية الكاملة التي تحاط باختيار الوزراء من قبل النظام الحاكم، وفي نفس الوقت تعكس رغبة شعبية في التغيير، على الرغم من أن هذا التغيير في الغالب يأتي بعيدا كل البعد عن طموحات الجماهير، فلا يعرف الشعب المغلوب على أمره: لماذا ذهب فلان وجاء علان؟ في الفترة الأخيرة، على سبيل المثال أُقيل وزير الموارد المائية محمود أبو زيد بالرغم من كفاءة الرجل وعين نصر علام بدلاً منه بدون أسباب مُعلنة.


فالوزارة حين تستقيل أو تقال فإن ذلك يحدث بدون مقدمات وفي غمضة عين، وليس ما جرى لحكومة الجنزوري ببعيد، فقد أقال الرئيس الحكومة بشكل مفاجيء عام تسعة وتسعين، ولم تجتمع لتقديم خطاب الاستقالة لتشرح فيه الأسباب للرأي العام، وإنما أرسلت رئاسة الجمهورية مندوباً لمجلس الوزراء ليتسلم خطاب الاستقالة ويسلمه إلى الرئيس، وغادر الجنزوري إلى منزله دون أن يتفوه بكلمة. وعلى الرغم من مرور عشر سنوات لا يعرف الشعب لماذا استقالت هذه الحكومة التي كان يحظى رئيسها بقبول لدي الشعب، بعدها تم تعيين حكومة جديدة برئاسة عاطف عبيد وزير قطاع الأعمال العام في ذلك الحين الذي يصفه البعض بأنه أسوأ رئيس وزراء عرفته مصر في العقد الأخير.


ومنذ عدة سنوات انتقل ممدوح البلتاجي من وزارة السياحة إلى وزارة الإعلام خلفا لصفوت الشريف بعد طول انتظار، ولم يستمر البلتاجي في منصبه سوى سبعة عشر شهرا من يوليو ألفين وأربعة حتى ديسمبر ألفين وخمسة بالرغم من النجاحات التي حققها حين كان يرأس الهيئة العامة للاستعلامات، بعدها فوجئنا بوزير الشباب والرياضة انس الفقي يأخذ مكان البلتاجي، والأخير يأخذ مكان الفقي، وبعد اشهر ألغيت وزارة الشباب وحل محلها الجهاز القومي للشباب والرياضة. ما السر في هذا؟ الوقائع توضح أن إنشاء وزارات جديدة لا يخضع لمعايير ولا يعكس فلسفة، ففي عام أربعة وتسعين أنشئت وزارة السكان وتم فصل إدارة السكان عن وزارة الصحة، وعين ماهر مهران وزيرا للسكان، وبعد عامين وتحديدا في عام ستة وتسعين ألغيت وزارة السكان، لتعود مرة أخرى إلى وزارة الصحة وظل ملف السكان من اختصاص وزارة الصحة حتى مارس ألفين وتسعة، حين قرر الرئيس مبارك إنشاء وزارة للأسرة والسكان، وإسنادها للسفيرة مشيرة خطاب، ومنذ ذلك الحين لم تتسلم الوزارة ميزانيتها إلا قبل أيام قليلة.


هذا الوضع يدل على أن التغيير يأتي فجأة أو صدفة أو مجاملة، وأنه لا توجد مؤسسات تشارك في قرار اختيار الوزراء، فقط جهات رقابية عليا تقدم تقارير حول المرشحين وهذه التقارير قد ترمى في سلة المهملات عند اتخاذ قرار تعيين الوزراء.


بعد كل هذه الأمثلة التي توضح الأسلوب العقيم لاختيار الوزراء واستبعادهم في مصر المحروسة، فإن الفوضى تؤكد الاختيار بعيدا عن المنطق. ومع ذلك يتكلم الشعب كثيراً عن التغيير الوزاري، وهو غير مدرك أن ذلك ليس من شأنه، وأن التغيير لا يعبر عن الأمل في الخروج من أزمات مصر المتفاقمة، بل عن المزاج العام لمؤسسة الرئاسة، فالرئيس مبارك يريد التأكيد على أنه ليس هناك من يطلع على ما في عقله، فهو وحده صانع القرار.


إعلامي مصري