من مفكرة سفير عربي في اليابان

بعد أن أنهار الاتحاد السوفيتي وانتهت الحرب الباردة، استأسد منظري الرأسمالية، وأعلن البروفيسور فرانسيس فوكوياما بانتهاء تاريخ العالم، وانتصار السوق الحرة. فقامت الولايات المتحدة بتحرير تكنولوجياتها العسكرية السرية من عقالها، لتبدأ ثورة تكنولوجية الانترنت، وتنشر عولمة سوق محررة من سلاسل قوانينها المقيدة، لتبدأ الخصخصة، ولتحول مسئولية القطاع العام في معظم الدول على الشركات الخاصة. وقد لفت نظري في الشهر الماضي ثلاثة تعليقات في لإعلام الياباني والأمريكي حول الخصخصة، أحدهما يتعلق بجمهورية إيران الإسلامية، والآخر بالولايات المتحدة والثالث بحكومة الصين.
لقد أعلنت حكومة إيران الإسلامية في شهر نوفمبر الماضي، عن إنهاء نصف مشاريع الخصخصة في بلادها، حيت صرح السيد غلام ريز هيدري كوردزنجانه، رئيس هيئة الخصخصة، بأن بلاده قد خفضت منذ عام 2005 الدور الحكومي في الناتج المحلي الإجمالي من 60% إلى 45%، بعد أن أكملت خصخصة 63 مليار دولار من أصول القطاع الحكومي، الذي يقدر مجموعة بحوالي 120 مليار دولار. فقد أوصى قائد الثورة، آية الله علي خامنائي، في عام 2006، الحكومة الإيرانية، للدفع للخصخصة، وذلك ببيع 80% من الشركات المؤسسات البنكية والإعلامية وشركات المواصلات والتعدين، لتؤكد هذه الخطوة بعدم تضارب الخصخصة مع التشريعات الإسلامية.
ويبقى السؤال المحير: هل ستشمل الخصخصة في منطقة الشرق الأوسط جميع الخدمات المجتمعية؟ أم ستحافظ الدولة على مسئولياتها في شبكة الحماية الاجتماعية، من تدريب وتعليم ورعاية صحية وتأمينات تعطل وتقاعد؟ وهل أثبتت التجربة كفاءة الحكومة في توفير هذه الخدمات؟ أم تحتاج تطويرها وتقدم تكنولوجيتها وكفاءة أدائها وخفض تكلفتها لمنافسة القطاع الخاص؟ وهل ستترك اليد الخفية لآدم سميث لكي تنظم حرية السوق كفاءة هذه الخدمات، أم ستحتاج لأنظمة وقوانين، وأداة تنفيذية حازمة، لمنع التلاعب والاستغلال؟ وهل من الأفضل أن تتحمل الدولة مسئولية الحماية الاجتماعية، وتترك توفير خدماتها للقطاع الخاص؟ وهل سيحتاج ذلك لتأمينات للرعاية الصحية والتعليم والتقاعد والتعطل؟ وهل ستدير الدولة مسئولية التأمين لهذه الخدمات، أم ستشاركه مع القطاع الخاص؟ وهل هناك تخوف من ارتفاع تكلفة التأمين الخاص لهذه الخدمات بدون حماية الدولة وقوانينها؟
لقد حاولت صحيفة اليابان تايمز في شهر نوفمبر الماضي مناقشة هذه الأسئلة من خلال الفيلم الوثائقي الجديد، الرأسمالية قصة حب، للمخرج الأمريكي مايكل مور. فقد أفتتح المخرج المؤتمر الصحفي الذي عقد في بورصة الأسهم بالعاصمة اليابانية طوكيو، للترويج لفيلمه بالقول: quot;بقدر ما أحب أمريكا، تحرروا من أن تكونوا مثلنا، بل كونوا كاليابان، كونوا اليابان التي كانت مبدعة منذ عام 1945، كونوا اليابان التي لم تلقي بمواطنيها خارج العمل.quot; وقد صور فلمه تباين الثراء في الولايات المتحدة، والذي خلق فجوة كبيرة في متوسط الدخل بين مسئولي الشركات وموظفيها لحوالي الأربع مائة ضعف، ولترتفع في بعض الشركات لتسعمائة ضعف، في الوقت الذي يخسر فيه مواطن أمريكي بيته كل 7.5 ثانية، ويتعطل 1400 مواطن من وظيفته كل يوم. كما أن هناك ما يقارب الخمسين مليون مواطن لا يستطيعون دفع تكلفة التـامين الصحي، بالرغم من أن الدولة تصرف 16% من أنتاجها المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية، وهو ضعف ما تصرفه اليابان (8%) على رعايتها الصحية الوقائية والعلاجية الشاملة والمتميزة بنتائجها الباهرة، بالإضافة لحوالي مليون مواطن أمريكي يعيشون تحت سقف الفقر. ومدح اليابان لربط رأسماليتها المسئولة اجتماعيا بديمقراطيتها الفاعلة، والتي طورت خلال العقود الخمسة الماضية شبكة حماية اجتماعية لمواطنيها شملت، الرعاية الصحية والتعليم والوظيفة وتأمين التقاعد والتعطل. وأكد المخرج بأن quot;السبب الرئيسي لإفلاس الأمريكيين هو تكاليف الرعاية الصحية، بينما لا يمكن أن يخسر المواطن الياباني بيته، لأنه لا يستطيع دفع تكلفة الرعاية الصحية.quot;
كما حذر ميكل مور اليابانيين من تقليد الولايات المتحدة، بقوله: quot;ففي السنين الماضية قررتم التغير بين عدد من رؤساء الحكومة المحافظين، وبدأتم الآن تعانون من بعض المعضلات التي نعاني نحن منها، كالجريمة والبطالة. فقد قلصت هذه الحكومات شبكة الحماية الاجتماعية، بخفض ميزانية الرعاية الصحية والخدمات التعليمية، وطرد المواطنين من أعمالهم، وصعبت الحياة على من لا يستطيع جمع الأموال، بمعاقبة فقرهم.quot; كما أنتقد الحكومة السابقة لمشاركتها في حرب العراق فقال: quot;لقد منحت حكوماتكم السابقة الشرعية لجورج بوش، فلم يتمكن غزو العراق لو أن اليابان والمملكة المتحدة والدول الأخرى تجنبوا دعمه.quot; ومع ذلك أبدى إعجابه باليابان بشكل عام، وتأمل بأن يبتعد الحزب الديمقراطي الياباني الحاكم عن الطريق الأمريكي، بقوله:quot;والتماسي المتواضع لكم الخروج عن الطريق الأمريكي، وبالرجوع مع رئيس الوزراء الجديد لطريق البلد التي أنا معجب بانجازاته.quot;
فنلاحظ عزيزي القارئ مدى تخوف بعض الأمريكيون من رأسماليتهم الفائقة، وخاصة بعد أن حررت الإدارة السابقة سوق العولمة من الأنظمة والقوانين، والتي أدت لانفلاتها وتفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، وفقد الملايين من المواطنين لبيوتهم ووظائفهم. وفي نفس الوقت أعجب الأمريكيون بما حققته البراغماتية الأسيوية في اليابان، واندهشوا لما تحاول أن تحققه فاعلية الحكومة في الصين، والتي عبر عنها الصحفي الأمريكي دانيال جروس في مقاله، مفاجأة شنغهاي، بمجلة النويزويك في الشهر الماضي، بالقول: quot;بينما يتجهم وجوه رؤساء الشركات التنفيذيين في الولايات المتحدة من غضب المواطنين وتجنبهم الصرف بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة، يتفاءل رئيس غرفة التجارة الأمريكية في شنغهاي. فقد قدرت استطلاعات الرأي لحوالي 370 من أعضائها، بأن 90% منهم، متفائلين للخمس السنوات القادمة، وذلك بالاستفادة من انتعاش السوق الصينية لبيع منتجاتهم فيها، بدل تصديرها للولايات المتحدة. كما علق المدير التنفيذي، ستيفن جرين، بالقول: quot;حينما أتيت لشنغهاي في عام 2000، كان الأجانب أغنياء، بينما الآن، أصبح مواطني شنغهاي نسبيا هم الأغنياء والأجانب فقراء. فقد نمى الاقتصاد فيها 12% سنويا منذ عام 1993 وحتى عام 2008. وحينما بدء الاقتصاد العالمي بالانهيار، قل التصدير، ولكن استمر الاقتصاد الصيني في النمو، مما أدى لزيادة الاستهلاك المحلي.
فقد غيرت الشركات الأجنبية التي أتت في البدء للصين لصناعة منتجاتها وتصديرها للخارج، إستراتيجيتها، وبدأت تهتم بالسوق المحلية، لتوفير منتجاتها للطبقة المتوسطة الصينية. ولفت ذلك نظر الرئيس الأمريكي أوباما في زيارته الأخيرة للصين، فعلق خلال مقابلته لطلاب الجامعة الصينيين بالقول: quot;نحن لا نحاول احتواء الصعود الصيني، ولماذا؟ لأن الصين توفر للأمريكيين شيئين نحتاجهم كثيرا، ديون رخيصة الفائدة، تغذي العجز المالي وتحسن وضعنا الاقتصادي، وسوق نامية للمنتجات الأمريكية.quot; وقد اختتمت الصحيفة مقالها بالقول: quot;لم يكن أوباما القائد الوحيد الذي طار للصين، فسيكون معرض التصدير لعام 2010 في مدينة شنغهاي، معرض ساحر تزيد مساحته عن مدينة لوكيسنبرج، وسيكون مستعد لاستقبال زائريه من جميع أنحاء العالم. وسيكون مطارها الدولي بادونج شاسع،كما سيكون قطارها الجديد الميغاترين جاهزا، وبسرعة 267 ميلا في الساعة، ليلمح الزائر من خلاله القرن الباسيفيكي.quot; تلاحظ عزيزي القارئ بأن الرأسمالية الغربية في أزمة، بعد أن قضت قرنين من عمرها، وواجهت تحديات تكنولوجيات العولمة الجديدة وسوقها الحرة المنفلتة. ويبقى السؤال المحير: هل سيتجنب الشرق الأوسط أخطاء الرأسمالية الغربية ويستفيد من التجربة الأسيوية في تطوير سوقه الحرة؟ وهل سينجح رأسماليته بتجنب الاعتماد على اليد الخفية لآدم سميث، ويعوضها بحكومات فاعلة وأنظمة وقوانين تجارية واقتصادية ملزمة؟ وهل سيحمي شبكة حمايته الاجتماعية من براثن سوق عولمتها الحرة؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان