آن الأوان لوضع هذه النقاط الصريحة الواضحة على حروف عراقية وأمريكية وإيرانية عديدة يدور حولها جدل منهك ومضلل وخائب، في كثير من تفاصيله. والمحزن حقا أن بعض قراء ما نكتب عن الشلة العراقية الحاكمة اليوم يسددون لنا اتهامات ظالمة تنقصها الخبرة والنزاهة والموضوعية، أساسها الجهل بتاريخ المعارضة العراقية السابقة، أو التعصب الفئوي أو الطائفي أو الحزبي أو العشائري، والانحياز لفرسان المحاصصة الذين يتحملون، حتى أكثر من الاحتلال نفسه، مسؤولية ما حل وما يحل بالعراق والعراقيين والمنطقة من خراب وحرائق وقلق وخوف وجوع وضياع وعدم استقرار.

وأول تلك الاتهامات أننا نعارض حكام المنطقة الخضراء بدوافع الحسد أو الحقد، أو لأنهم لم يشركونا في كعكة الوطن السليب. ولو عاد أصحاب هذه التهم الباطلة إلى صحافة المعارضة، وإلى الصحافة العربية وحتى العالمية، لاكتشفوا أننا عارضنا هذه الشلة ذاتها منذ عام 1992، وهو العام الذي عَقد فيه أحمد الجلبي مؤتمر فينا واستضاف فيه جمهرة واسعة من الباحثين عن الشهرة والثروة والسلطة، العارفين بأن ما يحرك الجلبي أصابع الأمريكان والإيرانيين والسورييين، وأن تلك الأصابع، بشكل أو بآخر، لن تخدم سوى مصالح أصحابها الذين لا يخدمون الشعب العراقي لسواد عيون العراقيين.

دعيت إلى مؤتمر فيينا ولم أحضر، ودعيت لمؤتمر نيويورك 1999 ولم أحضر، ودعيت لمؤتمر لندن 2002 ولم أحضر أيضا، وكان الذين قاطعوا تلك المؤتمرات، مثلي، آلافا بل مئاتٍ من آلاف العراقيين النجباء الذين لم يعارضوا صدام حسين لشخصه ولا كرها به وبأهله وأتباعه، بل لأنه أقام نظاما ديكتاتوريا طائفيا فاسدا أدخل الوطن في مأزق لا خروج منه إلا بآخر الدواء، وهو الكي، أي تغيير النظام، وإعادة الوطن إلى أهله موحدا متماسكا مزدهرا وآمنا يأخذ مكانه الطبيعي بين الأمم، بعد غياب الطويل، ولا يهدفون إلى تغيير نظام ديكتاتوري فاسد بنظام آخر ليس فاسدا فقط بل عميل مستعد لبيع الوطن وأهله بحفنة دولارات أو تومانات أو ريالات أو دنانير.

وكانت حجتنا في معارضة مهرجانات الجلبي وعلاوي ومسعود وجلال، ومن بعدهم الحكيم والجعفري، تقوم على أساس أننا نناضل من أجل تحرير إرادتنا الوطنية وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي عادل وليس رهنها للأمريكيين أو الإيرانيين أو غيرهم، والالتزام بتنفيذ أجنداتهم والخضوع لمخططاتهم، بأية حجة أو ذريعة.

لم نعارض صدام حسين، ومعارضيه المشبوهين، بالصمت وخلف الأبواب المغلقة. بل عـَلـَنا وعلى رؤوس الأشهاد. فقد أصدرنا بيانات، ونشرنا مقالات، وأجرينا مقابلات صحفية وإذاعية وتلفزيونية، دون خوف ولا خجل. وكانت أعدادنا أكثر من أعدادهم، ولكن قوتهم كانت أكبر من قوتنا، وأموالهم أكبر من أموالنا، وخلفهم تقف دول عتية لا طاقة لدول أخرى عديدة على ردعها وتحديها، ناهيك عن معارضتنا الفقيرة المتفرقة في بلاد الله الواسعة.

ولعل أكبر خطايا صدام وأعوانه العراقيين والعرب أنهم كانوا لا يفرقون بين معارضة وطنية نزيهة وبين معارضة أخرى تعمل وفق مصالح دول أجنبية لا تتفق ومصالح الشعب العراقي الاستراتيجية العليا. وكانوا يرشقوننا جميعا معا بالعمالة والارتزاق، مع الأسف الشديد.

وكان أحمد الجلبي وكل مشايعيه الكبار الستة يعرفون، تماما وجيدا، سبب معارضتنا لهم، وحقيقة مواقفنا منهم، بكل تأكيد. فحاولوا إغراءنا وشراءنا، فنجحوا مع قلة منا، وفشلوا مع كثيرين من رفاقنا. ومن يعود إلى تاريخ تلك الحقبة سيجد ما يشفع لنا ويميزنا عن معارضي مؤتمرات لندن وطهران ودمشق وأربيل وصلاح الدين وواشنطن ونيويورك، ويؤرخ مواقفنا الثابتة منهم، ومن تسلطهم على المعارضة العراقية واحتكار زمام أمورها.

ولأن جلودهم كانت جلود تماسيح فلم يكونوا يخجلون من تلك العلاقة بالمخابرات الأجنبية التي لا توصف إلا بالعمالة. بل كانوا يباهون بها، ويبالغون في رواية أخبارها وأسرارها، فقد اعتبروها سلاحـَهم الفاعل الذي يُرهبون به خصومهم ومعارضيهم الآخرين.

ويوم غدر قادة الأحزاب الكردية بحلفائهم في معارضة (فيينا)، وحل وفدهم في بغداد، فجأة ودون مقدمات، ضيفا على الذي كانوا يعارضونه بحجة ديكتاتوريته وطائفيته وفساد نظامه وجبروت مخابراته وسجله العامر بالمقابر الجماعية، وقبـَّل جلال الطالباني صدام حسين علنا وعلى شاشات التلفزيون، فاصلين قضيتهم القومية العنصرية عن قضية الوطن الواحدة، وضاربين عرض الحائط بشعاراتهم البراقة السابقة (من أجل الحرية والديمقراطية ووحدة الوطن) لاذ حلفاؤهم، علاوي والجلبي والحكيم، بالصمت التام. وحين فشلت مفاوضات بغداد عاد مسعود وجلال إلى أحضان حلفائهما، وكأن شيئا لم يكن، وعاد وا يناضلون (من أجل الحرية والديمقراطية ووحدة الوطن) من جديد.

يومها تأكد لنا أن جميع هؤلاء لا يبحثون عن وطن حقيقي، بل كان كل واحد منهم يغني على (ليلى) خاصة به، وضمن أجندة غير وطنية وغير نزيهة، حتى لو قادت إلى تفتيت الوطن وتمزيقه وأخراجه من نفق الديكتاتورية ورميه في نفق مظلم جديد أكثر ظلاما وأشد ضررا من سابقه، ولمنع قيام نظام وطني قوي عاقل وعادل يعيد العراق إلى مكانه الطبيعي في إقليمه وفي المنطقة والعالم.

أحمد الجلبي كان يحلم بأن يأخذ مكان رفيق الحريري في العراق. ولم يدر في خلده أن مواقف الأمريكان غير ثابتة، وليس لهم صديق دائم بل مصالح دائمة. وحين شعر بإهمالهم قام شاهرا سيفه الإيراني في وجوههم، آملا أن يفرضه المرشد الأعلى على العراقيين والأمريكان معا. فخسر المشيتين، واكتفى بأن يعيش في الظل، حالما بالعودة الظافرة. وكان مسعود وجلال يحلمان بدولة وبجيش وبلقب السيد الرئيس، وكان الحكيم يحلم بجمهورية مستقلة في الجنوب، وعلاوي بدور الرجل القوي الذي يرث صدام حسين بدولته البائدة وحزبه المنثور. أما حزب الدعوة فكان يحلم بدولته التي لا يغلبها غلاب، باعتباره الحزب القوي الوحيد الذي دشن التفخيخ والتفجير، من بيروت إلى بغداد.

ورغم نجاح السعودية في فرض وكيليها الوحيدين (صلاح عمر العلي وسعد صالح جبر) على ذلك الحلف، في مؤتمر بيروت 1990 الذي عقد بالمال السعودي وحده، إلا أن أوامر إيران وسوريا وأمريكا دفعت بقادة المحاصصة الكبار إلى طردهما، لأسباب طائفية وسياسية، وبتحريض من أياد علاوي الذي كان قد انفصل عن صلاح، واحتل جريدة بغداد وأموالها، ولأنهما كانا يرفضان الرضوخ للنفوذ الإيراني والسوري المهيمن على ساحة المعارضة، ويحاولان إيجاد تيار مواجه معادل لجبهة إيران وسوريا، ولكن بالمال الخليجي الشحيح الذي ظل قاصرا كثيرا عن اللحاق بالمال الإيراني والأمريكي الهاطل على الجلبي وعلاوي بغزارة. فلم يُمنح صلاح عمر العلي وسعد صالح جبر ما يكفي من المال والرجال والعتاد لتأسيس مليشيات أو لتنفيذ أعمال إرهابية مؤثرة داخل العراق، كما فعل الجلبي وعلاوي وحزب الدعوة، وذلك ربما بسبب رفض الأمريكان والإيرانيين شراكة غيرهما أو لعدم سماح الحليفين الكرديين بتنفيذ ذلك عبر مناطق نفوذهما في شمال الوطن، في حين سمحا لحليفيهما الآخرين الجلبي وعلاوي بذلك بحرية كاملة.

في تلك الحقبة المحرجة بالذات تأكد لنا جميعا أن حلفا غير مقدس يربط قادة الأحزاب الدينية العربية العراقية وقادةَ الأحزاب الكردية بإيران، بتواطؤ أو تطنيش أو غباء أمريكي. وتأكد لنا أيضا أن ذلك الحلف يعمل على إسقاط نظام صدام ليصل كل فريق إلى مبتغاه. والقاسم المشترك لكل فرقاء ذلك الحلف كان واحدا، وهو تمزيقَ العراق وتقسيمُه وإنهاءُ دوره، وربما وجودِه إلى الأبد.

وحين حدث الغزو وتحقق الاحتلال وسقط النظام بدأ تنفيذ تلك المخططات بدقة وبسرعة ومهارة. وأول ما فعله الحلفاء هو تقويض الدولة العراقية بالكامل، ونسف أسسها، وتدمير مؤسساتها ومرافقها ونهب معسكراتها وحرق سجلاتها وبعثرة أموالها.

وحتى حين عدنا إلى الوطن، بعد سقوط النظام، كانت عودة كل منا مختلفة عن عودة الآخر. فقد عادوا لفرض الأمر الواقع على العراقيين، ولاغتصاب الوطن بسرعة وفاعلية، قبل فوات الأوان. أما عودتنا فقد كانت عودة خبراء عراقيين ديمقراطيين وطنيين تطوعوا لوضع خبراتهم وقدراتهم وتجاربهم في بلاد الاغتراب في خدمة وطنهم الأم، لفترة محددة قصيرة لا تتعدى سنة واحدة، لإعادة تأهيل مؤسسات الدولة على أسس حديثة، وتسهيل تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة عن جميع الأحزاب، تتولى إدارة الدولة لفترة انتقالية محددة تتمكن خلالها من تشريع قانون انتخاب وطني نزيه لا يقوم على المحاصصة الطائفية والعنصرية والمناطقية، ولا يؤدي إلى التشرذم والاقتتال. ثم تقوم، بعد ذلك، بإجراء تعداد سكاني عادل تجري على أساسه انتخابات نزيهة تتسلم السلطة على ضوء نتائجه أية شريحة من العراقيين تفوز بأغلب الأصوات. وهذا ما كان قد وعدنا به الأمريكيون.

ولكن الزمرة المتحاصصة حشدت كل قواها، وكل ما لديها من خبرات في التآمر والدس والخديعة، واستخدمت حضوتها لدى دوائر صنع القرار في واشنطن، فتمكنت من قهر ذلك المشروع الوطني العظيم، وتفردت وحدها بالقرار، فكان تأسيس مجلس الحكم المشلول الذي كانت كل أهدافه تسهيلَ تقاسم الوطن، وتنظيم وراثة أسلابه المتناثرة.

وحصل ما حصل، وأصر الإيرانيون والأكراد وبعض الأمريكيين على حل الجيش العراقي وأجهزة الأمن والشرطة ووزارة الإعلام ومؤسساتها، وأغمض الأمريكيون عيون جنودهم عن الفرهود، وباركوا احتلال حلفائهم للقصور والمزارع والمعسكرات والمؤسسات، وسهلوا وطنشوا عن الاختلاسات الكبيرة، وقاموا بتهريب اللصوص الكبار، وسلموا رقبة الوطن لشلة من المنتفعين الانتهازيين الذي لم يتورعوا ولن يتورعوا عن أي شيء يبقي الوطن ضعيفا ممزقا هزيلا، لا جيشه جيشا كجيوش بلاد الله الواسعة، ولا أمنه أمنا، ولا رئيسه رئيسا، ولا وزراؤه وزراء، ولا نوابه نوابا، ولا سفراؤه سفراء. حتى الرشوة والفساد والسرقة، بفضل محاصصتهم، جاءت من نوع فريد لم يعهده العراقيون، لا في أيام العهد الملكي، ولا في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، ولا حتى في زمن صدام حسين.

والذي حدث بعد ذلك معروف. فسرعان ما اندلع الصراع المصلحي فيما بينهم، وبدأ التسقيط. فأزيح الجلبي، واحتل حزب الدعوة بغداد، وتربع الحكيم على عرشه في الجنوب.

وبدل أن تبعد الدولة نفسها عن جميع النشاطات الدينية والطائفية، وأن تقف على مسافة واحدة من جميع الفئات والطوائف والقوميات والأديان، نرى زعماء الأحزاب الدينية الحاكمة يستهلكون أموال الدولة، ويستغلون إعلامها، وينهكون جيشها وقوى أمنها في مرافقة المسيرات الدينية وحمايتها وتشجيع الناس على الانخراط فيها، ليس تدينا، لأن المرتشي والسارق والقاتل لا دين له، بل نفاقا ومداهنة، بقصد استغفال الجماهير المشاركة في تلك المواكب، ودغدغة عواطفها، من أجل سرقة أصواتها في الانتخابات المقبلة. إلا أن هذه الجماهير التي تأكدت من انتهازيتهم وفسادهم وكذب وعودهم، لن يخدعها نفاقهم مرة ثانية. ونقرأ هذه الأيام أن الشرط الوحيد الذي يتمسك به الواحد منهم هو الوعد بتنصيبه رئيسا للوزراء لكي يتحاف مع رفاقه في الانتخابات المقبلة.

ويلذ لبعض قرائنا أن يردوا على معارضتنا للسلطة الحاكمة اليوم في العراق، بأنها حكومة منتخبة. وهذا يحتاج إلى بيان. فلم تكن أمام الناخب العراقي الخارج من ظلام العهد الديكتاتوري السابق خيارات عادلة. فقد منح صوته للسيء المتوفر، هربا من الأسوأ الذي ذاق على يديه عذاب خمس وثلاثين سنة. ولو خيروا أي إنسان عاقل وسوي بين ذئب وقرد فسيختار القرد ويدع الذئب، خوفا من غدره وشروره. مع ما رافق الانتخابات السابقة من غش وتدليس وتزوير وتجهيل وتخويف ساهمت في بعضه المرجعية، وشاركت في بعضه الآخر أموال وافدة من خارج الحدود. فلو كان أمام الناخبين شخصيات مستقلة ديمقراطية حقيقية، شريفة ونزيهة، كما حدث في كربلاء مع الحبوبي، لتغير وجه العراق، ولعاد رجال الدين إلى مواقعهم التي يستحقونها بجدارة في المساجد والحسينيات، ولدخل البرلمان والوزارات والمحاكنم ومخافر الشرطة ومعسكرات القوات المسلحة عراقيون على أساس الخبرة والكفاءة والنزاهة وليس على أساس المحاصصة، وعلى أساس الولاء الطائفي أو الحزبي أو العشائري أو المناطقي، ولكان الوطن قد استعاد عافيته بسرعة، وجنب أهله الأبرياء كل ما ألحقه بهم حكام آخر زمن من مصائب وخراب.

هذا ما حدث في وسط العراق وجنوبه. أما في شماله فقد استقل مسعود بدولته، وأغلق أبوابها بوجه أي وجود عراقي عربي، حتى لو كان من حلفائه وشريكا له في المحاصصة. ليس هذا وحسب، بل جند كل ما في وسعه لإضعاف الدولة الأم وإنهاكها. وتطاول عليها وأفقدها قوتها وهيبتها واحترامها إلى أبعد الحدود، وما زال يهددها بالمزيد من الويل والثبور إن لم تستسلم لغروره وأطماعه، في حين يحتل أعضاء حزبه وحزب شريكه الطالباني نصف الدولة العراقية، من رئاسة جمهوريتها إلى وزاراتها وسفاراتها ومحافظاتها وثرواتها.

بالمقابل هيمنت على مناطق السنة العرب مليشياتٌ طائفية وعنصرية أخرى، من نوع آخر، لا يقل زعماؤها وقادتها طائفيةً وتخلفا وفسادا عن شركائهم الآخرين في جسد الوطن الذبيح، تحت خيمة مبتكرة أسموها ديمقراطية العراق الجديد، صمموها وأرسوا قوائمها على قدر حصص أسرهم وعشائرهم، أوحصص أحزابهم ومليشياتهم. أما الأغلبية الساحقة المغلوبة على أمرها فصامتة وهامدة، ولا يعرف متى تـُبعث من نومها إلا الله والغارقون في العلم والشهادة.

هذا ما يقوله تاريخنا وتاريخهم. ومن يعتقد بغير ذلك فليبرز ما لديه من بينات، وليحكم بالعدل، لا بالشتم الفارغ، ولا بالحقد الطائفي والعنصري البغيض. وبيننا وبين غيرنا وقائع التاريخ الذي لا يجامل ولا يهمل ولا ينسى، وإلى أبد الآبدين.