في ذكرى الحرب على غزة تفخر إسرائيل بالهدوء الذي حققته عملية quot;الرصاص المسكوبquot; من نتائج على الجبهة الجنوبية، وتفخر حركة حماس بالصمود المستمر، والالتفاف الذي شهد له احتفالُها في ذكرى انطلاقتها الثانية والعشرين. وتتوعد حكومة اليمين الإسرائيلية بحرب على غزة، لا تتمناها حماس؛ لإحباط quot;تعاظم القوة الصاروخيةquot; للحركة التي تعلن استعدادها للمواجهة.

كانت إسرائيل قد أعلنت عشية الحرب أن quot; الهدف من هجومها هو وقف إطلاق الصواريخ التي تسببت في معاناة البلدات الإسرائيلية الواقعة على حدود غزةquot;. ومنذ توقفت الحرب، وتلك التجمعات الإسرائيلية تشهد هدوءا شبه تام. إذ عملت حماس على ضبط فصائل المقاومة، لمنع الذرائع الإسرائيلية بشن هجوم جديد على غزة؛ حتى لا تتفاقم معاناة الناس، في ظل حصار مستمر، قد يشتد، وفي ظل تعطيل الإعمار.

وتصر حماس على أنها لم تخطىء في دخولها السلطة، وتَحمُّلها هذه الأعباء المعيشية، والمسؤولية عما يقارب مليون ونصف المليون فلسطيني في القطاع، وهي ترى أن مشاركتها في السلطة، واحتفاظها بغزة يمنح المقاومة الشرعية، ويوفر لها غطاء سياسيا، ولكننا نرى العكس؛ إذ أصبح الاحتفاظ بالسلطة في غزة مطلبا يُسوِّغ ضبط المقاومة، حتى أجل غير مسمى! فهل السلطة في خدمة المقاومة، أم أنَّ المقاومة أضحت محكومة بالسلطة، وحساباتها؟

فمن هو الآن في الوضع المريح، إسرائيل، أم حماس؟
صحيح أن حرب الأولى على غزة قد جرَّت عليها الإدانة الدولية، والملاحقة القانونية، وهذا ليس بسيطا، ولكنها من حيث الإمساك بزمام المبادرة، وامتلاك أوراق الضغط، والتحكم، هي المتفوقة، بقطع النظر عن الظروف الدولية والإقليمية والعربية غير المساندة لحماس، لكن حماس ما كان لها أن تتوقع غير ذلك، وهي تعلم الموقف الدولي، ومقدار التحكم الأمريكي به، وهي التي ما غيرت من نظرتها إلى أمريكا، وما قبلت بالرضوخ إلى شروطها؛ فعلامَ عولت حماس، أو علامَ تعول؟

كانت تعول، عالميا، على دول أوروبية، لا تتطابق في سياستها تجاه القضية الفلسطينية مع أمريكا. كما عولت على ما يسمى بالبعد الإسلامي والعربي، وربما الجماهيري، وكل تلك القوى اتضح أنها لا تقوى على الوقوف في وجه السياسة الأمريكية، وإن كانت نجحت في ترك آثار إعلامية، واستثارت أبعادا إنسانية، ظلت غير كافية!

وربما لا يضير السياسة الأمريكية وحتى الإسرائيلية أن يجري التنفيس عن أهل غزة، بقدر محسوب، من خلال محاولات اختراق الحصار التي تدعمها بعض جهات أوروبية، كما هو شأن قافلة شريان الحياة الأخيرة. وفي هذا السياق انبثقت ظاهرة بناء البيوت الطينية، بإشراف من الأمم المتحدة، وكأنها آلية من آليات التكيُّف مع الحصار، والتعايش معه!

وأما دول العالم الإسلامي والعربي؛ فلا تبدو هي الأخرى في وارد تحدي الإرادة الأمريكية، وكل ما نسمعه من تركيا، ورئيس وزرائها رجب طيب أردوغان لا يعدو التوظيف السياسي؛ للدخول إلى البلاد العربية، بوجه مقبول، من بوابة القضية الفلسطينية. وبالرغم من التوتر الذي اعترى علاقة تركيا بحكومة بنيامين نتنياهو؛ فإنه لم يغير من طبيعة العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين. وهذا النفور التركي من حكومة اليمين الإسرائيلي يندرج في جملة الضغوط التي تُمارس عليها لعزلها عن محيطها الإقليمي، ودفعها إلى مواقف أكثر مرونة، من عملية التسوية والصراع العربي الإسرائيلي.

وما موقف إيران المأزومة داخليا، ودوليا، عن الموقف التركي ببعيد، وإن كانت أكثر استخداما، وتوظيفا لورقة المقاومة، وغزة؛ لأسبابها المعروفة.

وأما مصر وهي المنفذ العربي لغزة، فما قالت يوما أنها ممن يخرج عن الاتفاقات الدولية، وعن الاتفاق الدولي المتعلق بمعبر رفح.

وخلاصة الأمر فيما يتعلق بحماس وسياستها، أنها تريد أن تمسك العصا من الوسط؛ فلا هي حركة مقاومة خالصة، تراعي اعتبارات المقاومة، ولا هي حركة سياسية واقعية، بمعنى التعامل مع الأمر الواقع، والإقرار بمعطياته.

وهي تقبل بالواقع في جانب، وتتجاهله في جانب آخر، يظهر ذلك في التعامل مع quot; الجدار الفولاذيquot; الذي تنشئه مصر؛ فحماس تعترف بسيادة مصر، وحقها في التحكم بحدودها، ولكنها تعتبر هذا الجدار جدار العار.

ولا خلاف في أن الحصار على غزة ظالم، وغير إنساني، ولا يجوز المشاركة فيه، لكننا هنا بصدد تحليل كيفية تعاطي حركةٍ قبلت بالدخول في هذه اللعبة، وفي هذا البيت الذي صممه غيرُها، والمقصود: السلطة؛ بوصفها ثمنا لاعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، فهي قد أنشئت بموجب اتفاق أوسلو. وكأن حماس تأملت أن تجني quot;المنافعquot; ولا تدفع الثمن! أو أنها بالغت في تضخيم قوتها، وقوة من تعول عليهم.

وفي نهاية المطاف، ومن أجل استبقاء عمق لها، تقبل قيادة حماس بالاصطفاف مع إيران، أو لعلها تضطر، بالرغم من كل المحاذير التي تحفُّ هذه العلاقة، وبالرغم مما يعنيه ذلك من مصادقة حماس الضمنية على ممارسات إيران القومية الفارسية قبل كل شيء.

وأما حال المقاومة في الضفة الغربية؛ فلا يختلف من حيث النتائج، وإن اختلف من جهة الأسباب؛ والحالة، هنا، أكثر وضوحا؛ إذ اقتنع محمود عباس، مهندس اتفاق أوسلو بوجهة النظر الأمريكية التي لا ترى إمكانيةً في الجمع بين التفاوض وquot;العنفquot; وقد أكد هذا المعنى الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه الشهير في القاهرة، واستبقى النضال السلمي، والمدني. لكن هذا النهج يواجه هذه الأيام مأْزِقا محرجا، ولا سيما وقد وصلت المفاوضات بسبب مواقف اليمين الإسرائيلي إلى طريق مسدود، وزاد الطين بِلَّة، العمليةُ الإسرائيلية الأخيرة في مدينة نابلس.

وأخطر ما في المشهدين، الغزِّي، والضفِّي، هو أن كلا الحكومتين أصبحتا رهينتين لـ quot; مكتسباتهماquot; المعلَّقة، وغير الناجزة، وكلاهما يعول على أمور مظنونة، وإسرائيل تبدو في حِلٍّ من أي قيد، فيما هي تحسن المناورة، حين تستفيد من الانشغال الأمريكي عن المنطقة، إلى أبعد حد مكن؛ فلا تصل في المواجهة، مع واشنطن؛ إلى منتهاها؛ فتتراجع شكليا، وتبدي مرونة تكتيكية، وهي تشتد في مخططاتها على أرض الواقع، ولا تنتظر، أو تتوقف!
[email protected]