عندما كتبت مقالي الأول في إيلاف، وكان ذلك قبل ثلاثة اعوام، لم أكن اترقب نشر المقال بقدر ما كنت اترقب ردود القراء عليه. كانت عدد الرسائل التي وصلتني حينها ستة لا أكثر. في المقال الذي تلى كان عدد الرسائل اكثر من

غالبا ما نتساءل، عندما ننشر مقالا في إيلاف، من هو قارئي الافتراضي - الإيلافي هذا، إلى أي جيل، تيار، ينتمي، ماذا ينتظر مني حتى أكون في حسن ظنه، ما هو العنوان المناسب الذي يجذبه لفتح مقالي، أي موضوع قريب من قلبه وعقله، هل أغلبه أنثوي أم ذكري، وأية طريقة مثلى للتأثير فيه/ فيها، حتى أشعر أني ساهمت في التغيير الفكري والاجتماعي المنشود...
نريد من هذا السؤال أن يكون موضوع مقال بمناسبة التصميم الجديد

عشرة، ثم احدى عشرة رسالة، وهكذا اخذت نسبة تفاعل القراء مع ما اكتبه تزداد الى ان اكتشفت حقيقة سيئة المذاق.. أني اصبحت اكتب ليس ما أنا مؤمن به بالضررورة بل ما يثير القراء ويجلب لي المزيد من رسائلهم.
هكذا، وبكل بساطة، وجدت نفسي أحيد تماما عن هدف الكتابة السامي في التعبير عن ما اؤمن به من افكار الى استفزاز القراء لحثهم على ارسال المزيد من الرسائل.
ما الذي حدث بعد ذلك؟ لم أتغير كثيرا، او لنقل أني لم اتغير سريعا، بل استلزم الأمر بعض الوقت كي اعود الى كتابة ما أنا مؤمن به، ولكن دون تجاهل ما يريد القارئ قرائته، وما يخاطب حياته وشأنه اليومي ويخفف من معاناته. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، أخذت اتابع ما ينشر من اخبار هنا وهناك أبحث عن اكثرها جذبا لاهتمامتنا، مع حرصي على ان اترك قلمي جانبا وأقعد في صفوف القراء ابحث مثلهم عن ما اريد معرفته او قراءته. وقد وجدت بعد مرور الوقت أننا نعطي الأولوية لأحد ثلاثة موضوعات او جميعها: الاشكاليات الدينية والطائفية، الفضائح الاجتماعية، وقضايا الفساد. ولما كنت ابن مجتمع شديد المحافظة والتحفظ، وهو السعودية، فقد انحاز قلمي للكتابة في الإشكاليات الدينية.
لنقل اني من خلال مقالاتي كنت افرغ شحنة من اختناق ديني. وان كان من شيء احتسبه لهذا الاختناق الذي عشته، فهو انه دفعني الى قراءات كثيرة في علوم الاديان والمجتمعات والطوائف بما مكنني من اعطاء صورة اكثر دقة ووضحا عن الدين والله وما أراه من خير لمجتمعاتنا بعيدا عن الطائفية والعنصرية ورفض الآخر.
مجالان آخران احببت دوما الكتابة فيهما: الموسيقى والكتابة الساخرة.
مع الموسيقى أتى الفشل سريعا، رغم قراءاتي عنها. ولم استغرب ذلك وأنا الذي نشأ على ان سماع الموسيقى كفر، والعزف كفر، والغناء كفر، والاشارة المرورية كفر.
وبالمثل فشلت في الكتابة الساخرة، ذلك ان هذا النوع من الكتابة يحتاج الى مجهود عملاق لست أملكه، والى خفة ظل لست املكها هي الأخرى.


لكن ماذا عن السياسة؟
نعم، احب الكتابة فيها، شان معظم الكتاب، وان كنت على ثقة ان القارئ قد مل منها ومنا ومن السياسيين انفسهم.
صداقتي مع القلم تعود الى سنوات طويلة مضت. وقد تعلمت من هذه الصداقة أن اكتب ما أنا مؤمن به، بصرف النظر إن توافق ذلك مع ما يطمح له القراء ام لا. وكثيرا ما اصطدمت بأرائي مع الكثيرين ليس بحثا عن الاثارة في حد ذاتها، بل إيمانا بأن كل شيء قابل للنقض والتكذيب او التصديق.
لا يمكن ان يكتب الكاتب ما يريد القراء ان يقروه ان انعدمت الفائدة من المقال، وان لم يطرح المقال فكرا جديدا ورأيا جديدا حتى ولو قلب الطاولة رأسا على عقب. وهذا ما أحاوله في كل ما اكتب. لم اميز ايضا بين قارئ وقارئة، لكني وجدت شيئا لافتا للانتباه، وهو ان القارئة تفضل الحوار المنطقي على الصدامي، وهي أكثر تفهما وقبولا للطرح الجديد بعيدا عن الاحكام المسبقة.
تبقى نقطة أخيرة، وهي مسألة اختيار عنوان المقال الذي أكتبه.. وسأعترف هنا وأقول بأن بعض مقالاتي بنيت تحت مظلة عنوان طرأ لي، وليس العكس كما ينبغي للأمر ان يكون. عذري هنا هو أن العنوان الجيد يعني، في معظم الاحيان، مقال جيد. فوضوح العنوان وجاذبيته تعني تملك الكاتب مما كتب. وأنت عندما تملك ناصية أمر ما ستجيد التعامل معه ولو كتبت عن فلسفة سقراط أو افكار ابن رشد. وإن سألني احدهم: هل تتعمد اختيار عناوين مستفزة؟ سأجيب بكل صراحة: نعم، بل دائما ما اتعمد ذلك. فأنا لست الكاتب الوحيد في عالم المقال بين اسماء اكثر شهرة وخبرة مني، وإن لم احسن اختيار العنوان فلن يقرأني أحد وسطهم.
هل يعني ذلك أني أعود من جديد الى الحلقة ذاتها فأبحث عن ما يستثير القراء بصرف النظر عن قناعاتي؟ اقول ربما هذا صحيح، فأنا ما زلت أحاول ان اكون محايدا دون ان اهتم بمن هو معي او ضدي، احاول ان اكتب ما انا مقتنع به، وأن اخرج من ثوب الخوف الذي التصق بكل كاتب عربي حتى بلي الكاتب ولم يبلى الثوب. هل تراني حققت ذلك؟ لا.. او لعلني أقول ليس بعد، وربما ما يزال الطريق طويلا.
[email protected]