quot; أعتقد بوجود حقِيقة، لكِنِّي لا أعتقد بأنِّي سأكون على يَقيِنٍ مِنهَا أبدًا quot;
ديفيد مكرينولدز

يقف الفرد منَّا اليوم أمام واقعٍ كونِيٍّ مُتسارعٍ ومنفلتٍ في آن، وسط تشابك وتعقيد بالغين، من حيث سيرورته وصيروته، فينظر بعين تعدديَّة الأبعاد، فيجد تَحدّياتٍ لا تُجابه إلا بالعمل وفق معايير متعددة، وأنظمة منفتحة متحركة ومتعددة التركيب، فلا بأس وفق هذا التصور من التعدد ولا خوف من الالتباس والازدواجية، وهذه الأطروحة تتبلور من خلال :
تنوّع الحقائق وأصولِها ( أو بتعبيرٍ أدق : عدم تَمَطْلُق الحقيقة)، و تعدد الرؤى وألوانها، و تشابك المصائر وتعقيداتها، ونسبية الاعمال ومعايرها...

وفي هذا السياق يشير جان ماري مولر في كتابه حول اللاعنف quot; أن quot;الحقيقةquot; تصير حاملاً للعنف بمجرد أن تَتَمَطْلق [تتخذ صفة الإطلاق] s'absolutise ولا تترسَّخ في فريضة اللاعنف. فإذا لم تقضِ الحقيقةُ بنزع شرعية العنف من الجذور، ستأتي لا محالة لحَظةٌ يظهر فيها العنفُ بالطبع كوسيلة شرعية للدفاع عن الحقيقة.
يتيح الاعتراف بفريضة اللاعنف رفضَ الوهم بتاتًا، ذلك الوهم الذي تحمله الإيديولوجياتُ وجميع الخطابات التي يستوحيها المنطقُ السليم منحرفًا والحماقةُ مستشريةً، وهم أن من الضروري والعادل اللجوءَ إلى العنف دفاعًا عن الحقيقة.
إن اللجوء إلى العنف يعني قولاً واحدًا اتخاذ موقع لا يُمكن للحقيقة أن تكون فيه. ندَّعي خدمةَ quot;الحقيقةquot; والدفاع عنها بالعنف، ولكنَّ quot;الحقيقةquot; هي التي تخدم العنف وتدافع عنه في واقع الأمر. وفي هذا التحالف الشاذ، يكون ما يتعزَّز هو العنف، لا الحقيقة.

كل شيء يجري وكأن الحقيقة هي التي تحكم لصالح العنف، بحيث يبدو العنف نفسه حقيقيًّا. فالعنف ينتصر سلفًا ويفرض نظامَه مادام حاصلاً على تواطؤ الإنسان فكريًّا. أما في الواقع، فـالعنف ضلالة؛ وضالٌّ كل مذهب يزعم تبرير العنف، أي جعل العنف حقًّا للإنسان. فالعنف يعيق سيرورات الحقيقة التي يمكن لها أن تُخلَق بين البشر.quot;

وينبني على هذا التصور لمفهوم الحقيقة أمور منها :

إن هذه الاطروحة تلغي منطق الادعاء بالتحكم بالقوانين، فيما يتعلق بالقوانين الواقعيَّة، أو النُظم السياسيَّة، أو الشرائع الدينيِّة، أو القوانين الوضعيَّة.... لأن القوانين والنصوص كلّها بِما فيها quot;اللاهوتيةquot;، هي في النّهاية أحد أشكال الخطاب، و الخطابات متساوية في كونها خطابات ولا أحد منها يمتلك الحقيقة.

هذه الأطروحة تقوّض الأنظمة الأحادية والتوتاليتارية الشموليّة، بما فيها الليبرالية الشمولية، والعلمانوية المتطرّفة، فتُسقط كل أشكال النماذج الأبدية الآحادية، التي تَمنح نفسها الحقّ الحصري في منح صكوك الوطنية، والديموقراطية، والحرية، والغفران السياسي منه والديني على حدّ سواء، وتُصادر الحقائق وتَحتكر التفسير وتجبر كل الكائنات المحيطة بها على اعتناق تأويل واحد هو ما تزعم انه quot;حقيقة quot; أكيدة.


من مفاعيل هذه الرؤيا أنها تكسر صورة النموذج من الذهنيات وتُلغي المنطق القائم على التَّماهي بالمثل، حتَّى على المستوى الفردي طالَمَا أن الأصل مزدوج ومتنوع، فكل كائن حالة قائمة لا يتطابق مع نفسه أو يتساوى مع ذاته، ولا يوجد ذات وآخر، لأن الآخر يَختَرقنَا بشكل دائم ونَحن نَخترقه، و قد تتنوع الأطوار بين الافراد فالغير قد يكون ما كنّا نحن عليه، أو ما نرغب ان نكون عليه، أو ما نَحن عليه الآن، او ما نُخفِيه، لذلك فإن التعامل من منظور الذات المتنوعة المتطورة يجعل كلّ البشر في الأرض شركاء بعضهم البعض.

الحقيقة من منظور اللاعنف

http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/


----

هذا المبحث كانت قد تناولته الكاتبة من بعض جوانبه في كتاب quot;أفكار متمردة في الفكر والثقافة والسياسة quot; ndash; الصادر 2008 ndash; القاهرة ndash; ص 171

ديفيد مكرينولدز : quot; فلسفة اللاعنف quot; ndash; ترجمة : ديميتري أفييرينوس ndash; معابر للنشر والتوزيع ndash; دمشق ndash; 2009 ndash; ص 11

جان ماري مولر quot;قاموس اللاعنف quot; ترجمة محمد علي عبد الجليل ومراجعة ديميتري أفييرينوس ndash; معابر للنشر ndash; دمشق 2007 ص 105- 106