السجال الدائر بين أنصار الشيخ يوسف القرضاوي، من جهة، ومن يؤيدون السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، من جهة أخرى، لا يعدو كونَه مظهرا من مظاهر الانقسام السياسي الحاد الذي تشهده المنطقة العربية والإسلامية، على خلفية الانقسام بين غزة والضفة الغربية. ونحن هنا لا نطمح في حسم هذا الجدال؛ لأن مسائله متشابكة، والخلفيات الفكرية لكلا الفريقين متباينة، ولكننا نتوخى الإنصاف، أو محاولته، كما نتوخى الإحاطة، لا الانتقائية، والانحياز المسبق لنتائج مسبقة.

وقد كان تعقيب القرضاوي على موقف quot;أبو مازنquot; من تقرير غولدستون هو القشة التي قصمت ظهر البعير؛ إذ نُسب إليه القول: quot;إنّ الجرم الذي ارتكبه محمود عباس يستحق عليه الرجم في مكةquot;. وهو يقصد طلب تأجيل النظر في تقرير غولدستون، وهو الأمر الذي نفته السلطة وعباس، بالقول إن الطلب لم يكن فلسطينيا، بقدر ما كان موقفا عربيا وإسلاميا دخلت السلطة فيه.

كما أن القرضاوي كذلك نفى ما نُسب إليه بإطلاق استحقاق عباس الرجم، إلى تقييده بثبوت ما اتهم به عباس.فقال: إنه قال:quot; إنْ ثبت أن محمود عباس قد حرّض الإسرائيليين على ضرب غزة، فإنه لا يستحق الإعدام فقط، بل يستحق الرجم، فهل ينكر أحد أن من يخون قومه ويدعو عدوه إلى ضرب قومه، لا يكفي الإعدام في حقه بل يجب أن يرجم، كما رجم العرب قبر (أبي رغال) الذي دل أبرهة الحبشي على طريق مكة لهدم الكعبة الشريفة؟quot;

ولم تكن ردة فعل السلطة ووسائل إعلامها أقل حدة، فقد هاجم كتّاب مقربون من السلطة القرضاوي بحدة، وتطرقوا إلى شؤونه الشخصية كزيجاته، وأمواله،وبلغ الانفعال حدَّه، حين قال أحد الكتُّاب:quot;... فالشيخ المِزواج يعرف أن بيته من زجاج، وعليه أن يخرس، ويفطم لسانه عن الفتوى؛ لأنه فقد شروطها ويلحس كل ما أفتى به مثلما يلحس أحذية أولياء نعمته من المتخمين، لأن رسالة الداعية هي نبذ الفتنة وقتل النفس التي حرم الله، فيما هو ينشر الفتنة والبغضاء ويدعو للقتل، قاتله الله quot;. ثم دخل خطباء الجمعة في الضفة على خط المواجهة quot; فعرّضوا بالقرضاوي، ودعوه إلى التثبت في النقل، وعدم اتّباع الأهواء في المواقف والآراء.

ما يستوقف المراقب للسجالات الدائرة اليوم على خلفية الانقسام الفلسطيني وتداعياته، من حصار وحرب وجدار وغير ذلك هو المعالجة التي لا تخلو من انفعال يَذْهب بالرأي المنصف، وتستوقفه كذلك الانتقائية في الأحكام.

فمن الناس من ينظر إلى ما تنشئه مصر من منطلق سيادتها وحقها في أن تفعل في حدودها ما تشاء، دون أن ينظر إلى مقدار التشابك بين مصر وأهلها وغزة وأهلها، وكأنه يُعلِّب المسألة، ويقيس بالمسطرة، دون نظر إلى اعتبارات إنسانية واقعة، لا يصح أن تُتجاهل، بغض النظر عن المسؤول عنها. وهؤلاء يحتجون بأن اتفاقية المعابر الدولية موقعة مع السلطة، وأن حماس بانقضاضها على السلطة، لم تصبح في نظر العالم هي السلطة الشرعية، وبالتالي فإن حماس بإصرارها على الانقسام، ورفضها التوقيع على الورقة المصرية؛ إنما تقف عقبة أمام فتح المعابر، وتسيير أمور الناس طبيعيا، دون الحاجة إلى العيش تحت الأنفاق، وانتهاج التهريب للسلع والحاجات المشروعة، وغير المشروعة.

وأما الفريق الذي يدعو مصر إلى فتح معبر رفح، فإنه لا ينهج النهج الثوري نفسه مع دول عربية أخرى له معها علاقات حسنة، كسوريا، مثلا؛ فلا يطالبها بمساعدة الفلسطينيين، وهو يذبحون في غزة، أو في الضفة، بل طالما كان رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل يخرج إلى الإعلام في أشد حالات الطحن والمجازر في فلسطين، كما كان إبَّان مجزرة جنين ونابلس القديمة في ربيع 2002م يخلي مسؤولية الدول العربية، وبالذات دول الطوق التي تكون أكثر حرجا من تحمل أية أعباء عسكرية، ويكتفي منها بالدعم السياسي، أو المالي!

فالمأخذ هنا، كيف نقبل بـ quot;الواقعية السياسيةquot; في حالات ونرفضها في حالات أخرى؟! فكما أن هذا الطرف يقرُّ بالضعف العربي في الحالات السابقة، فإنه وبحسب منطقه، يستطيع أن يتفهم موقف مصر التي تقول إنها لا تستطيع أن تنقلب على الاتفاقات الدولية، ولا تملك أن تجابه العالم الذي لا يعترف بسلطة حماس، مع أننا لا نخلي طرف أية جهة عربية من مسؤولياتها تجاه فلسطين بكل ما تستطيع فعله.

وبالعودة إلى الشيخ القرضاوي فإنه يؤخذ عليه مواقف لا تخلو من انتقائية، كذلك، وقد انتقده وزير أوقاف السلطة محمود هباش في خطبة الجمعة قائلا:quot; إنه عندما أرادت طالبان أن تهدم تمثال بوذا في أفغانستان هب علماء الأمة، وعلى رأسهم القرضاوي للحيلولة دون هدمه، لكن عندما قصف بيت الله في رفح وقتل مسلمون داخله لم يتحرك أحد، في إشارة لمسجد ابن تيمية الذي تحصن فيه مقاتلون من جماعة مسلحة أعلنت إمارة إسلامية في رفح وهاجمتها قوات حماس.quot;

ولعل ما نحتاجه اليوم، أكثر من غيره هو استبقاء جهات ثقافية وفكرية ودينية عليا تترفع عن الظهور بمظهر المنحاز إلى هذا، أو ذاك، لتتبوأ مصداقية تخولها التأثير على الطرفين؛ لِتبقي على خطاب هادىء بعيد عن الانفعال، أو الأحكام الصارخة؛ لتتمكن من تقويم أي انحراف سياسي ليس بمنأى عنه، فتح، أو حماس، ولا حكومة غزة، أو سلطة الضفة. فكان بإمكان الشيخ القرضاوي أن يقول مثلا إنه يتوجب فتح تحقيق من جهات نزيهة ومحايدة للنظر في ملابسات تقرير غولدستون، ومحاسبة كل من يثبت تورطه في جرائم مدانة.

وهنا الفرق بين اللغة السائدة والمطلوبة شعبيا، وبين اللغة العاقلة المطلوبة موضوعيا، وهنا الفرق بين خطاب العامة وذوي التفكير العاطفي الانفعالي، وبين العلماء ورُعاة الرأي، وموجهي الرأي العام، ولا سيما في هذه الظروف الشديدة الانقسام، والعميقة الخلاف.
[email protected]