من أكثر التُهم سهولة، وإثارة للغوغاء، ودغدغة لمشاعر العامة، وانتشاراً للفضائيات، تهم الإلحاد والتكفير التي تُلصق بالليبرالية وبعض الليبراليين البارزين في الشرق والغرب. وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد كارثة 11 سبتمبر 2001، واشتداد الضغط الليبرالي على الإرهاب والإرهابيين، والقشرة الدينية الزائفة التي يغطون بها أعمالهم الانتحارية، أن فتاوى التكفير ضد الليبراليين والليبرالية، لا تخرج من كبار علماء الدين - ما عدا القلة القليلة المُسيَّسة ndash; وإنما تخرج في الغالب من صغار رجال الدين المُتكسبين المُسيَّسين. فالسياسة كما يقول لنا طه حسين (1889-1973) في عام 1935، في كتابه quot;من بعيدquot;، استطاعت أن تستفيد من رجال الدين القابلين للتسييس، استفادة كبيرة، لم تصل إليها فتوحات جيوش السلاطين وغزواتهم.

خصومة أبدية لا انقطاع لها!

يستدرك طه حسين بحسه التنويري، وعقله الحداثي، ورؤاه العقلية، جوهر الخصومة بين العلم والدين، فيؤكد في كتابه quot;من بعيدquot;، أن الخصومة ليست بهذه الرعونة الدموية بين العلم والدين، وإنما هي بين العلم ورجال الدين، وخاصة المسيَّسين والقابلين للتسييس منهم. ويشرح لنا، كيف أن خصومة العلم مع الدين خصومة أبدية، لا انفكاك منها.

فمنذ آلاف السنين، وقبل ميلاد المسيح عليه السلام، وحتى الآن، لا العلم نفى الدين، ولا الدين نفى العلم.

وكلاهما سائر في طريقه.

العلم له أتباع القلِّة من العلماء والمفكرين والفلاسفة، والدين له أتباع الكثرة من المؤمنين.

وأن لا رعونة ولا دماء في خصومة العلم والدين، إلا عندما دخلت السياسة بين العلم والدين، وأصبح للدين رجاله والمتكسبين به، فأفسدت السياسة العلاقة بين العلم والدين، وذهبت بهذه العلاقة إلى الإثم، بل إلى الإجرام.

الخصومة منذ سقراط إلى اليوم

ويوضِّح لنا طه حسين، أن رعونة الخصومة والدماء بين العلم والدين، بدأت منذ عهد سقراط، أو ربما قبله. وما كان الحكم بالموت على سقراط إلا حكماً سياسياً، وليس دينياً أو علمياً. ولولا هروب أرسطو من أثينا لواجه المصير نفسه. فدين الإغريق الوثني ساذج، وبسيط، وغير متعصب، ويخلو من مؤثرين عنيفين: علم الكلام، والأكليروس. فلا علم للاهوت لديهم، كما هو في اليهودية والمسيحية. ولا قساوسة لليونانيين الأوائل، يحتكرون الدين وتعاليمه وفتاويه. وكانت العلاقة بين اليوناني والآلهة مباشرة، لا وسيط فيها.

وامتدت الخصومة الدموية بين العلم ورجال الدين إلى ما بعد ظهور المسيحية، بفعل استغلال السياسة لهذه الخصومة، وامتدت خلال ظهور الإسلام وإمبراطوريتيه: الأموية والعباسية، وخلال القرون الوسطى. وظهرت واضحة في عصر التنوير الأوروبي، وما زالت حتى الآن في الشرق خاصة.

لا خصومة دموية بين العلم والدين

يؤكد طه حسين، من خلال رؤيا ليبرالية واسعة، أن الخصومة بين الدين والعلم خصومة مفتعلة، وهي صناعة سياسية بامتياز، أكثر منها علمية.

فلا خصومة بين العلم والدين.

ولا خصومة بين الوثنية واليهودية والنصرانية والإسلام.

ولا خصومة بين دين ودين.

ولا خصومة بين طوائف دينية وأخرى من نفس الدين.

ولكن الخصومة الحقيقية هي بين القديم والجديد.

بين السكون والحركة،

بين الجمود والتطور،

بين الثابت والمتحول،

بين الإبداع والإتباع،

بين القدامة والحداثة.

ويسأل طه حسين سؤالاً جميلاً:

- كيف نستطيع أن نفهم، أن يلقى سقراط، والمسيح، ومحمد، عليهما السلام، اضطهاداً من نوع واحد؟

ويسأل العميد سؤالاً آخر، أكثر جمالاً:

- كيف نستطيع أن نفهم، تشابه موقف الوثنية، والمسيحية، واليهودية، على اختلاف الأمكنة والأزمنة، وأجيال الناس، وطبائع جنسياتهم؟

ويجيب العميد بتنوير ليبرالي مضيء:

- كيف نستطيع أن نفهم، تشابه هذه المواقف، إذ لم نردَّها إلى أصل واحد وهو:

الخصومة بين القديم والجديد. واستغلال السياسة للخصومة بين القديم والجديد.

وهذا ما درجت عليه السياسة طيلة قرون مختلفة، وعصور متعددة، وما زالت السياسة حتى الآن في المشرق العربي، تقوم باستغلال هذه الخصومة أسوأ استغلال وأبشعه.

لم يلغِ أحدهما الآخر!

وظل العلم سائراً في طريقه.

وظل الدين هادياً ومرشداً للأخلاق الحميدة، في طريقه.

ولن يلتقيا.. لطبيعة كلٍ منهما المختلفة.

وبقي المفكرون والفلاسفة (أصحاب القلِّة) يبشرون بالتنوير، ويحاربون الخرافة، ويؤكدون دور العقل في ترسيخ القيم الأخلاقية الدينية. وأكد المفكر التنويري السعودي يوسف أبا الخيل بقوله:

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تحوَّل التنوير الأوروبي إلى حركة فكرية شاملة، يقودها تيار ضخم من الفلاسفة، الذين ذهبوا يحاربون مثبطات العقل الإنساني بمنطق التنوير الداعي إلى تخليص الفكر الإنساني من الخرافة، والدجل، وادعاء العلم، بالكشف، والذوق، وتحرير العقل الإنساني من سطوة الوصاية الكنسية الكاثوليكية، بحيث مدّوا تساؤلات التنوير، لتصل إلى كل شيء تقريباً. (quot;التنوير.. قلب معادلة الوسائل والغاياتquot;، جريدة quot;الرياضquot;، 26/5/2008).

(وما زال الجراب مليئاً بالكلام)

السلام عليكم.