ساعيد التذكير بالقصة الايرلندية الاسطورية: حيث توجد قطتان اكلت كلتاهما الأخرى حتى لم يتبق منهما سوى الذيلين، وقد عُرِفت هاتان القطتان في بعض الدراسات التي عنيت بعوائق تشكيل الأمّة بأنهما ايرلنديتان، ولا بدّ أن هذه الاستعارة الأسطورية نهضت على حقيقة الصراع بأسبابه المختلفة:الاقتصادية والمذهبية والثقافية... الخ في ايرلندا، وعلى مبادئ الواقع الذي عاشته في تاريخها المنظور إليه منذ القرن السادس عشر على الأقل، ومن بين تلك المبادئ كانت وجهات نظر الانكليز حول الفقر والثقافة في ايرلندا، فقد عُزي الفقر إلى الكسل ومشتقاته، امّا الثقافة فتكفي معرفة وجهة النظر البريطانية عنها وهي: تمدين أهل ايرلندا ودفعهم الى ان يشعروا أو يتصرفوا مثل الآدميين، وحول تخفيف المحنة فليس من مهمات بريطانيا، في الوقت الذي كانت المجاعات قد تسببت إلى اعلى نسبة من الوفيات في اي مكان في العالم خلال أربعينيات القرن التاسع عشر.
انّ فنّ لوم الضحايا، على حدّ تعبير الاقتصادي والفيلسوف الهندي امارتيا صن هو امر معروف، وقد انتجه عدد من الشعراء والمثقفين والنظريين كما انتجته الثقافة الشعبية غير العميقة، ومن اشهر الامثلة على ذلك القصيدة الملحمية quot;الملكة الجنيةquot; للشاعر الانكليزي ادموند سبنسر المنشورة عام 1590، فالبريطانيون لم يكونوا يلومون سوء ادارتهم ايرلندا، ولكنهم يشبعون الايرلنديين سخرية وتقريعا على حين كان هؤلاء يواصلون موتهم المريع، ويذكر صن بأنه كان لـ: quot;هذه الفجاجات مظهر سطحيّ في انها تتناسب جيدا مع المازق المحزن للاقتصاد الايرلندي، حين كان هذا الاقتصاد في حالة سيئة بالفعل، ولكن عندما بدأ ينمو بسرعة مدهشة - والحق انه اسرع في السنوات الأخيرة من أي اقتصاد أوربي آخر (وايرلندا الان اكثر ثراءا تقريبا في نصيب الفرد من الدخل القومي من ايّ دولة اخرى في أوروبا) لم يُلغَ التنميط الثقافي وعلاقته المزعومة بالاقتصاد والاجتماع باعتباره محض هراء غثّ quot; والجملة التي ارغب في ان يركز عليها القارئ هي quot;... فالنظريات لها حياة خاصة بها، شديدة التحدي لعالم الظواهر التي يمكن رصدها واقعيا ً quot;.
انّ السخرية العمالية الانكليزية: quot; كم من الايرلنديين تحتاج الى تغيير لمبة كهربائية؟ quot; لم يعد لها موقع في واقع الاقتصاد والثقافة لكنها قد تستحق مكانا في حوليات الانثربولوجيات غريبة الاطوار كما يعبّر صن.
انّ القطتين الايرلنديتين هما استعارة اسطورية، وليس من المهم هنا أن نبحث في الانساب والفصائل، وفي الحقيقة ضاعت القطتان من حيث الدلالة، و لم يبق سوى الذيلين من حيث الدلالة ايضا.
لا اريد هنا ان اكون لجوجا في تتبع احتمالات معنى القصّة، لان ملامح الوجه ستضيع اذا ما أغرَتنا تفصيلاته، كما قال بلزاك، ونحن في العراق، في بلدنا الان وههنا، لا نحتاج الى استعارات، مهما كان ظلها خفيفا، على حين نحن متورطون في الحقائق الثقيلة، صدقا ووهما وكذبا، وقد وصف احد كبار متقدمينا، هو ابن قيّم الجوزية بعد ان جرّب قيود علم البلاغة العربية التقليدي، المجازَ بالطاغوت ؛والاستعارة هي من المجاز سواء كان لغويا ام عقليا، ومن ابرز مظاهر الاستعارة الطاغوتية كثرة التفريقات والتقسيمات الى الدرجة التي يئس فيها كثير من الباحثين من تحديد اتجاهها وعجزوا عن ايقاظ قواعدها، حتى انكرها البعض او قام بدمج المجاز بها والعودة مجددا الى مدرسة الحقيقة، وهذا شان اخر ليس هنا مناسبة بحثه، لكنّ مناسبة تطاول الاستعارة على الواقع، وجعلها نظرية تسيطر على مبادئه، هي التي تستحق كلّ اهتمام، من طرف المثقفين. فلغة السياسة والاعلام عندنا مليئة الان بطواغيت الاستعارة، حتى انها تريد ان تمنعنا من رؤية ما تحت انوفنا، اما ما هو ابعد من انوفنا فنحن نجازف به لاننا نعطي لبعض الالفاظ والاستعارات بعدا استراتيجيا، او دستوريا، في حين انها اشارات الى ما هو عابر او استثنائي، فحين نتحدث عن مكونات ما انما نضعها في مستوى الهوية، أي التطابق، مع الشخصية بحيث لا نرى غيرها هوية، علما ان كلاًّ منّا له اكثر من هوية تفريعية، وبذلك نمنع المكونات من تطلعاتها الى بعضها لتشكيل الهوية العامة، وهي ما تسمى المواطنة، أي اننا نقع، شئنا ام ابينا، في امتثال لواقع العزلة الخطرة اجتماعيا ونفسيا ونقوم بعدئذ بانتاج خطابات وافعال لا تلائم الا العزلة واخطارها واخطاءها العملية والنظرية. اقول لك، على سبيل المثال: ادخل الجيش وبيدك سلاح باعتبارك من المكون الفلاني. هذا نص خطر، لان المكون سيكون اقوى من المؤسسة التي اسمها الجيش، فالجيش ستدخله عدة مكونات بصفتها هويات اقوى والحصيلة واضحة، ولا سيما انّ الجدال حول المكونات مازال يتفرع الى منازعات في الجماعات الصغرى التي تختزن صداها في الكبرى، والجيش ليس جماعة ولكنه مؤسسة فماذا يبقى من كونه مؤسسة اذا تواجهت اجزاؤه لا باعتبارها quot;محلولا quot; بل من حيث كونها عناصر مركبات لا يمكنها ولا ينبغي لها ان تتخلص لحظة واحدة من صفاتها التي اتصفت بها قبل دخولها على المؤسسة، بل كانت سببا في انخراطها في ما كان يسمى:سلك الجيش.
نعم، لو كان لهذه المؤسسة، وانا اخترت مثالا متطرفا لخطره، طابع مترصن محمي كمنظومة ونظام، لقلّت المخاطر، لكن ذلك الذي اشرنا اليه يحدث في مرحلة التكوين ولا بد من انعكاسه على شكل المؤسسة ومضمونها، هذااذا كان بالامكان انشاء مؤسسة كهذه على اسس كتلك، مهما كانت درجة التنظيم وتعقيده، فالقضية، كما يقال، في منتهى حدود الاحتمال، كما ان فيها متطلبات تجريدية لا يمكن تلبيتها ضمن الدوافع الضيقة والموافقة المضطربة كما لدى زبون المعالج النفسي على حد تعبير فتجنشتين الذي لم يكن يرى فائدةً اصلا في تعيين الهوية (نحن نكرر تعبير الموافقة المضطربة كثيرا لان دلالته المرحلية قد تتجاوز الى ما هو ابعد من المرحلة التي لها، ايضا، قابلية على ان تتكرر).
انّ الاستعارة من حيز اجتماعي، تلقائي ومتفاوت، الى مجال تنظيمي هي امر في غاية الارتباك واللا مبالاة اذا لم نسمّها تسمية مدخولة (= غير بريئة.. ولا يمكن البتة تناسي ظرف الاحتلال العسكري و السياسي.. الخ وان الجيش الاميركي كان جيشا امبرياليا لا غير وكل ذلك يدخل في الاعتبار عند ملاحظاتنا السابقة عن تكوين الجيش العراقي بعد 9-4).
في سياق متصل بالمكونات، وهي موجودات حقيقية يتم سردها في ظرف مشوش، كانت استعارات اخرى، تحسينية وتبريرية في الغالب، تتعلق بالتنوع والاختلاف والعيش المشترك باعتبار كل ذلك دلالات وأسبابا حضارية رافدينية، وهذا امر يستحق التفكير في المكان والمكين و المتعلقات، لكننا لا نستطيع التاكد من النيات وقيمتها الا من خلال الأعمال، مع حفظ ما للنية وحدها من قيمة وعواقب، فكل شئ كان يجري في اتجاه اخر غير الفسيفساء العراقية او طاقة الزهر او غيرها من استعارات متعلقة بالمكونات التي تتطلع الى مكونات اخرى (على سبيل المثال ان تكون للكردي تطلعات عربية وللعربي تطلعات كردية والى اخر البقية من المكونات ان كان لها اخر). فتماسك اجزاء الفسيفساء يعني انها ستارة لصيقة بجدار او بسقف او....، اما طاقة الزهر فلها مظهر المواءمة المحزوم، وكل ذلك تعبر عنه اخر جملة قالهافيصل الاول بشكل واقعي:quot; ليسِرْ الشعب بُعدي بقوّة واتحادquot; والذي كان قدختم مذكرته الشهيرة في اذار 1933 قبل زهاء سبعة اشهر من وفاته في 8 ايلول من العام نفسه بquot; المحزن والمضحك والمبكي معا quot; (لنلاحظْ الكآبة الملكية في نسق المتعاطفات:المضحك بين المحزن والمبكي ومع ان المذكورات في العطف قد وردت في سياق الانتقاد الحاسم للاولويات التنفيذية الا ان جو المذكرة الممتلئ بالتحفظات يسمح لنا بانتزاع المتعاطفات فهي متلازمة بالواو التي تفيد مطلق الجمع وتأكيده بـquot; معا quot; لكن الترتيب واضح في الاسماء الثلاثة والواو تاتي للترتيب ايضا اذا عدنا الى النقاش النحوي العربي، وما يعنيني هنا هو الاقدار العراقية التي كانت مذكرة فيصل الاول مشبعة بها تضمينا وتصريحا والتي هي اشبه ما تكون بحظوظ الديالكتيك حسب عبارة عبدالله العروي).

ساذكر قصة من الاستعارات سمعتها من احد وكلاءوزارة الخارجية العراقية السابقين:ان نوري السعيد سمع بان عددا من السياسيين مجتمعون في بيت السيدعبد المهدي (سياسي من العهد الملكي والد احد رجال الطبقة السياسية الحالية)، فذهب اليهم من غير علمهم وبيده مسبحة خرزاتها مختلفة الاشكال والحجوم ومتفاوتة القيمة، دخل الدار وسأل السيد عبد المهدي عن رايه في المسبحة، وقال السيد انها غير لائقة فقطع الباشا خيطها وقال: اجمعوا خرزاتها كما كانت، واستطرد:العراق مثل هذه المسبحة وانا خيطها فاذا انقطع الخيط لا يمكن ارجاعها الى ما كانت عليه.
دلالات هذه الاستعارة كلها يمكن تفنيدها، لكن المكونات، اذا كانت خرزات في مسبحة، تحتاج الى خيط، ومن الافضل الا ينقطع بيسر، خيط ملائم، وليست في حاجة الى خيوط غير ملائمة، ولا الى حبال غليظة، والخيط هو المؤسسة اذا اردنا اتجاه الحقيقة من الاستعارة المؤسسة بهيكلها ومضمونها.
ولو افترضنا ان كلتي القطتين اكلتا ذيليهما فقط لعاشتا كما تعيش القطط البتراء، ولكن ماذا لو انقلبت الاية وعاش الذيلان وحدهما و ليس لهما كما هو معلوم قابلية الاستخلاف أي: لا ينتجان قططا؟ ولا يعيشان مكتفيين؟
ليت شعري هل يمكننا تحرير ثقتنا من براثن الطاغوت المستعار؟هل نستطيع العمل وفق اخلاقيات الواجب العام ولا نتشرذم في اخلاق العاطفة الحرجة؟ هل نحن قادرون على معايشة ملكوت استعارتنا بعد ان نعزل عنها ايضا الطاغوت اللا سياسي للتقسيمات السياسية اللامبالية؟ على كل حال، ان مرايا الثقافة الادبية ولو كانت رقيقة، لن تتكسر بانعكاس التناقضات العنيفة على صفحاتها وان عصفورا واحدا لن يمتنع عن الطيران بسبب ظلال الكواسر فوقه، كما ان ظلا سمينا لن يحول دون اقتطاع شجرته الوارفة.
الان ننتقل من الاسطورة واستعاراتها الى الواقع ودلالاته المتحركة خاصة وانني اكتب تقريرا ادبيا في لحظة سياسية محلية واقرن بها امثلة من الادب والفلسفة في نوع من المقاربة:
حكى الروائي الروسي اندريه بيتوف قصة من اخر عهد خروتشيف، خريف 1964 في الاتحاد السوفييتي، كانت القصة حدثا حقيقيا وقد وصفها بانها quot; تقريبا فتنة خنقت نفسها بقواها الذاتية quot; ؛ ففي مناسبة عيد السابع من تشرين الثاني كان بعض الاشخاص يحرسون دار بوشكين وقد نظموا حفلة مبتذلة للرقص، واكثر ما اثار دهشة الروائي هو انهم بعد ان كسروا كلّ شئ واتلفوه قاموا صبيحة اليوم التالي في اصلاح كل ّ شئ وبشكل جيد الى الدرجة التي لم تنل العقوبة ايّ فرد منهم. كان هذا الخبر نواة رواية quot; بيت بوشكين quot; التي صدرت في اثناء الانتقاد الجذري ولكن الهادئ الذي صبه النقاد والمثقفون السوفيت على الرقابة والرقابة الجمالية التي كانت تعرّض اعمالهم للانتقاص في اقلّ الاحوال سوءا ً.
هذه الحكاية في اصلها تتعلق بقضية اعادة البناء والبناء الذاتيّ، وقد وقف بيتوف ضد اعادة بناء الذات، وهي مشكلة فلسفية تمّ طرحها على نحو اخر في مسألة التكوّن اللاحق مقابل النقد الذاتي في المانيا بعد النازية وخاصة في النقد المفصلي الذي قام به هابرماس في كتابه quot; المعرفة والمصلحة quot; وفي الكلمة الختامية المتعلقة بكتابة التاريخ بصورة نسقية وفي فترة تموضع الذات مقابل النقد الذاتي، واعتقد اننا بحاجة الى الاطلاع على امثال هذا النقد.
ولست هنا بصدد متابعة هذا الامر، على خطورته، في قضايا الثقافة والمثقفين في العهود التي تسبق اللحظة الانتقالية والتي ترافقها ثمّ تليها، وانما يهمني الان التركيز على طاقة الخطأ، حسب قول تولستوي، هذه الطاقة التي شاع التعبير عنها في اخريات عهد الاتحاد السوفييتي بطاقة الوهم، كما يذكر بيتوف، ولا بد انّ تولستوي قد تعايش مع افكار ذات علاقة باصول طاقة الخطأ، الاّ ان التجربة الحيّة تجعل من العسير التفرقة بين المخطئ والطاقة التي تولد خطأه، كما انّ هذه التجربة سوف تلتقي بأمكانية اخرى وهي امكانية تصحيح الخطأ، مع انّ عددا من الاخطاء لن نعلم بها الا بعد وقوعها، وكما يقال فأن المعرفة هي اخطاء مصححّة، امّا عوامل كبح الخطأ ومحاولات تجنبه قدر الامكان وتخفيف اثاره وتعطيل وقوعه فقد تنتقل بنا الى اخطاء من نوع جديد واجراءات تصحيحية تستانف قدرة الانسان على التماشي مع قدره او ارادته او اعادة انتاج ذاته.
اذن ؛ استطاع الاشخاص الذين كانوا يقومون على حراسة بيت بوشكين ان يصلحوا ما كسروه في ليلة العيد الطائشة، وقد يكون من الاصعب او من غير الممكن ان يصلحوا شيئا من المقتنيات لو انّ غيرهم قد كسر بعض الاشياء او اشترك معهم في التحطيم، ومع كونهم سكارى حين غلطهم الاّ انهم توصلوا بعد صحوتهم الى الاصلاح بعد ادراك فداحة ما فعلوه، اضافة الى انّ الاشياء كانت ما زالت لها قابلية ايضا على ان تتصلّح، اي انها عاونتهم على العمل، مثلما كان لها قابلية على ان تنكسر، وكلّ ذلك حدث بين ليلة وضحاها في مساحة صغيرة مع اشياء رمزية لها قيمة اضافية اكثر من كونها رموزا.
كنت قرأت مقابلة مع بيتوف عام 1989 قبيل التجربة التي نعرفها عن نهاية الاتحاد السوفيتي، وكان يكتب رواية يحاول الاجابة فيها عن السؤال: quot; لايّ سبب ولايّ هدف وُجِد الانسان، والى ايّ حد هو ضروري (او غير نافع) للبيئة التي تحيط به وللنظام الذي يحكم الاحياء؟ quot;، وكان اسم الرواية quot; بانتظار القرود quot; وهي في الحقيقة عن الانسان الفائض او الوظيفة المتغيّرة على حدّ تعبيره، اسئلة الروائي المتقدمة تتردّد دائما في ايّما مجتمع واع ٍ لوثبة الفكر من الانفعال الى الاستقلال وهي اسئلة تتصّل ولابدّ بطاقة الخطأ وامكانية تصحيحه، وهما طاقة وامكانية متجددتان، ويمكن تسميتهما، اذا اخترنا، بالتراكم والتعويض، حسب الظروف والمواد الواقعة تحت التجربة، فلو كانت الاشياء المتحطمة في بيت بوشكين هم الاشخاص انفسهم فليس بامكان محتويات البيت ان تقوم باصلاحهم لان تدمير الذات الانسانية يحتاج الى نوع خاص من الاصلاح ووقت اخر ولوازم ليست من لوازم اصلاح الاشياء التي حطمها الحراس.
تبدو طاقة الخطأ الحرة حدثا من غير الممكن السيطرة عليه، الى ان يتدمّر كل ما تتناوله تلك الطاقة، فلا يعود اي شئ يمثل اي شئ، حالة مما وصفه فلوبير في quot; سلامبو quot; او تلك الرؤى التوراتية المفصلة، او الصور التي مازالت الملاحم العظيمة والاشعارالخالدة تمدَنا بها. انها الازمات التي لايموت فيها القديم موتاً نهائياً ليتيح الفرصة لولادة الجديد. وحين تتوقف طاقة الخطأ وهلة لتأخذامكانية الاصلاح دورها الواضح فسنحسب الخسائر وفق الجهد والزمن اللذين يتطلبهما التصحيح، وبما انّ المقالات، سواء أكانت علمية ام غير علمية، هي مقالات ظروف، فانّ الاخطاء التي كان لابدّ أن تحدث بعد تفكك الاتحاد السوفيتي هي وليدة ظروف ذلك البلد، الظروف البريئة والمدخولة، ووليدة ظرف التفكك نفسه المختلف عن المقدمات، اي وليدة ظروف الصيرورة. وقد كان للتفككّ التدريجي الداخليّ- مهما بدا في الاخير مدوّياً - أثرٌ في امكانية السيطرة على ظروف الصيرورة على طولها ومحتوياتها الكابوسيّة، مع ذلك فانّ طاقة الخطأ نالت الأخلاق السوفيتية في الانضباط ودهش الناس لاندثار المكتسبات والعوائق معاً ليسودالتعقيد اللانظامي والمتضارب في كل شيء امام اعين الجميع. أقول: مع ذلك كان هناك مستوى ما من التحكمّ تقوم به المبادرات السياسية وضمائر المثقفين على اختلافها، مستوى يقع في ما نسمّيه العقل السياسيّ. أريد العودة للتذكير قليلاً بمقالات الظروف: فالمانيا النازية لم تنهر كما انهار الاتحاد السوفييتي وليست الاسباب متطابقة، فالاخير لم يتعرض الى حرب كي يسقط، انّ سقوطه يتضمن طاقة الخطأ بمعناها الذاتيّ (ولا نريد أن نجعل كلّ شيء بريئاً!)، ولهذا كان الساسة الألمان والمثقفون والاقتصاديون يعملون على ادراك مصلحتهم لما بعد النازية في ظلّ ظروف ما بعد الحرب. أهم ما في كل هذه الامور هو أن لا يتكبّر احد على الظروف وأن يعترف الجميع بخاصيّة الظرف، سواء أكان احتلالاً أم تغيّراً ذاتياً، أم ألاثنين معاً. وأن لايسمح لطاقة الخطأ أن تتجاوز على امكانية التصحيح، وان تتحوّل تلك الطاقة الى قاعدة للتدمير الحرّ.
لا يحتاج القارئ الى أن أقوم بتنبيهه الى العلاقات بين وضع الاتحاد السوفييتي بعد التفكك أو ألمانيا بعد الحرب، وبين وضع بلدنا بعد 9/4/2003 فالمقارنات لا تقود الى برهان ما ولو كان باهتاً، بيد انني اودّ التذكير بانّ طاقة الخطأ تبدأ خطوتها الأولى بأن تجعل الميزان مائلاً وبهذا فليس هناك من شيء يوزن بشكل صحيح. كما انه من المناسب ان لا نعتبر التجربة وهي في بدايتها على أنّها ناضجة من الناحية العملية، فحين نقول:انتخابات ناشئة يجب ان لانلتزم بآليتها كما يلتزم الراسخون بالديمقراطية فلا ديمقراطية بدون مؤسّسات تمهيدية ومصاحبة وحين نقول الحقّ في شيء لا نقصد به الواجب في شيء. أي ان:الحقّ المدنيّ لا يعني الواجب الشرعي أو الوطني أو الاخلاقي فهو حق وحسب وحين نقول:قرارات مصيرية ينبغي أن لا نفسدها بالظروف الاستثنائية. وحين نقول انتخابات نزيهة يجب أن لا ننسى الظروف هل هي شبه نزيهة أم لا علاقة لها بالنزاهة؟. وحين نقول ديكتاتورية يجب أن نتفقد أنفسنا:هل فينا الجنين الذي لن يكون ديكتاتوراً؟. وأخيرأً، وليس آخراً، اذا قلنا الاحتلال فلنحسب مأساته فينا ومأساتنا فيه، وكيف نستطيع أن نجعل من ذلك فرصة لتصحيح خطأ ما ولنقلل من طاقة الخطأالتي رأيناها رأي العين ونرى رأي العين المبادىء العمليّة لهذيان تدمير الذات. كان سارتر يقول للمثقفين اليابانيين: quot; نسمي نكبتنا نصرا وتسمون نكبتكم هزيمة quot; اعرف ان هذه العبارة لن تقرأ كما تلقاها مثقفو اليابان من سارتر بعد الحرب العالمية الثانية، وبغض النظر، الان وها هنا، عن من المنتصر ومن المهزوم فأنّ بيت quot; بوشكينناquot; قد تاخر البدء في اصلاح اشيائه المحطمة. ارجو ان لا اتجاوز على ظروفنا اذا تذكرت شعرا لمايكوفسكي عن لينين: كان لينين يمرض ولكنه كان يشفى قبل ان يلزم الفراش.