حملت لنا إيلاف خبرا عن أن المرجع الديني الاعلى آية الله علي السيستاني قد شدد على quot;ضرورة توثيق علاقات العراق مع محيطه العربي والاسلاميquot;. قبل ذلك كان الجدل محتدما على قدم وساق حول محيط العراق العربي وكان آخرُ مقال بهذا الخصوص ما كتبه كاتبٌ ماركسي ندد فيه بالداعين لهذا الشعار ومستحضرا فترات من تاريخ العراق استخدم فيها القوميون المتطرفون هذا الشعار في خدمة الافكار الرجعية والمحافظة وللتنديد بجهات كانت سباقة في التضامن مع القضايا العربية واتهامها بالشعوبية. لم يكن الكاتب مخطئا بقدر تعلق الموضوع بالخلفية التاريخية لاستغلال هذا الشعار المثير للجدل.
لا شك أن العراق ذو وضع خاص بسبب موقعه الجغرافي وانفتاحه النسبي وسهولة تدفق أقوام وأفراد إليه. فالعرب الذين يشكلون الاغلبية الساحقة من سكانه وفدوا اليه بشكل رئيسي بعد الفتح الاسلامي. وفي العراق الحديث كانت الإقامة فيه سهلة نسبيا وبدون مستلزمات قانونية وخصوصا في الفترة بعد تأسيس الدولة العراقية، فالعائلة المالكة التي حكمت العراق قبل ثورة الرابع عشر من تموز لم تكن quot; عراقية quot; بل كانت من أصول حجازية وكذلك العديد من المرجعيات الدينية النافذة والشخصيات العلمية التي اغنت التنوع العراقي وساهمت في تأسيس ثقافة ذات ديناميكية وتنوع. ولم يشكل هذا التنوع لدى العراقيين أية عقبة حتى انغلاق العراق شبه التام في السبعينات والتي بدأ بها النظام السابق بالحملات التي شنها على العديد من مكوناته مبتدأ بالاكراد الفيليين وقيامه بترحيلهم.
و لكن شعارا ما واستغلاله بطريقة ما هما أمران مختلفان تماما، عدا أن شعارا ما من الممكن ـ وهذا هو الأهم ـ أن يكون ذا مضامين متغيرة بتغير الزمان والظروف. فشعار quot; كل السلطة للسوفييت quot; رفعه لينين، الذي أصبح قائد ثورة أكتوبر فيما بعد، في الفترة التي سبقت الثورة، ثم عاد بعدها وسحب الشعار بعد أن رأى أن مضمونه قد تغير بتغير الظروف، ثم ما لبث بعد فترة ان اعاد العمل به، بل وجعله الشعار المركزي للبولشفيك والذي ساهم في حشد الحشود للثورة.. تم ذلك في بحر شهور ليس أكثر.
شعار توثيق العلاقة مع المحيط العربي يطرحه الان أناس واقعيون لا ينقلون شعارات اممية لم يعد لها وجود نقلا ميكانيكيا وهم يرون أن اضعاف العراق وعلاقاته مع محيطه العربي يجري لحساب المشروع الطائفي وتفكيك البنية الوطنية بالإرتباط مع الصراع المحتدم بين ايران والمجتمع الدولي وكل امتداداته في لبنان والعراق واليمن. وهذا البعض لا يرى ضرورة توثيق العلاقة مع المحيط العربي فقط بل والاسلامي أيضا، بما في ذلك إيران، من اجل خلق حالة متوازنة.
و هذا البعض يرى أن توثيق العلاقات مع المحيط العربي لا تتناقض بل تتكامل مع العلاقات مع المجتمع الدولي الذي يطالب بسياسة متوازنة خصوصا في ظروف تدويل القضية العراقية ووجود نفوذ قوى لقوى المجتمع الدولي في العراق ممثلة بالوجود العسكري والاقتصادي والسياسي الامريكي الضخم وحرص حلفاء أمريكا الاوربيين على جعل الدول العربية وتركيا جزءا من علاقات العراق الخارجية مع الجيران اسوة بالعلاقة الوثيقة مع ايران وليس على حسابها، فليس هناك محلل واقعي يرى استبعاد ايران تماما، بل جعلها جزءا من شبكة العلاقات هذه وتحديد معايير لها ليس أقلها احترام السيادة العراقية ووحدة اراضي العراق. وهذا هو بالضبط محيط العراق العربي والاسلامي.
إن علينا أن نكون جزءا من محيط ما، فنحن كبلد لا يمكن ان نكون معلقين في الفراغ، وحتى الجزر المعزولة في المحيط تهتم بإقامة علاقات مع اقرب جيرانها، وسياستنا الخارجية وعلاقاتنا الاقتصادية والسياسية ينبغي أن تأخذ بنظر الاعتبار، أن لنا جيرانا، رضينا عن هذا الجار أم لم نرض، وجيراننا ليسوا سوى عرب ومسلمين ولا شيء غير ذلك. واذا ما كانت كل دول العالم تسعى الى علاقات متوازنه مع الجيران فإن العراق بشكل خاص يحتاج ذلك بشكل مشدد ولاسباب خاصة، فكامل مياهنا تقريبا تنبع من دول اخرى وبدونها يكون بلدنا صحراء قاحلة، وخطوط النفط تعبر دولا جارة. وسوف يحترم الجيران قواعد التعامل مع بلدنا وخصوصا في قضايا المياه طالما كانت لدولتنا هيبة ولها سياسة خارجية متوازنة.
و اذا ما سعى جيراننا الى تأسيس نفوذ في العراق فإن الامر طبيعي تماما طالما أن ذلك يتم بالطرق المألوفة دون اللجوء إلى العنف والتدخل ويقوم على الاحترام المتبادل. ولكن هذا نفسه يرتب على العراقيين أن ينظروا إلى الامر من زاوية مصالح شعبهم بمختلف اطيافه وليس من وجهة نظر قومية أو طائفية.
راود بعض الاوساط الكردية الاعتقاد بأن توثيق علاقاتهم بالمجتمع الدولي والولايات المتحدة على وجه الخصوص يغنيهم عن علاقاتهم بالجيران وبشعوب الدول الجارة ويوفر لهم ضمانات بعدم تكرار المآسي، وانطلق هذا البعض مرة اخرى من عقدة الاضطهاد لرسم وجهة نظره في السياسة الخارجية وشُنّ هجومٌ على العرب غالبا وعلى الأتراك احيانا على اعتبار انهم مشكلة المشاكل وأن مجاورتهم هي التي جلبت كل هذه المآسي. يقود هذا التعامل بطبيعة الحال إلى الانغلاق القومي واسقاط الافراط العاطفي على المعايير السياسية.
اثبت مثال اسرائيل أن العلاقات مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة ( وهي علاقات ليس لها مثيل أبدا ) لا يمكن ان تكون بديلا عن المحيط الذي نعيش فيه وحاجة اسرائيل الى علاقات جيدة مع جيرانها تزداد وضوحا يوما بعد يوم، فسواء اسس الكورد في المستقبل دولتهم الخاصة أو بقوا ضمن اطار الدول الاخرى فأنهم بحاجة الى مد الجسور الثقافية والاقتصادية والتعامل بواقعية مع الشعوب المحيطة بهم.
هناك اطراف طائفية من هذا الطرف أو ذاك رأت أن تقوم علاقاتٌ خاصة مع هذا الجار او ذاك على حساب سياسة شاملة متوازنة، ولكن بما أن الاحزاب الدينية الشيعية والأحزاب الكردية هي الاكثر تأثيرا في رسم سياسة العراق الخارجية، خصوصا وأن وزير الخارجية السيد زيباري من احد الحزبين الكرديين الحاكمين، فقد التقى الطرفان على التقليل من شأن العلاقات مع تركيا والدول العربية كل بدوافع مختلفة. ولكن هذه الاتجاهات بدأت تنحسر أو تستتر وليس بوسعنا الا ان نتعامل معها بتفاؤل حذر.
ليس من النصف أن نعتبر كل من ندد بالأنظمة العربية ومن افرط في استخدام التعبير الساخر quot; العروبي quot; وquot;العربيون quot; ساعيا إلى ترويج خطاب طائفي، بل أن الكثير من هؤلاء انما يعبر عن سخطه لتضامن الانظمة العربية أو صمتها عن الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيين ومغامرات الحروب التي خاضها النظام السابق.
ولكن هل يصلح هذا كمعيار لتعريف محيطنا ولبناء سياسة خارجية عراقية مع الجيران؟
لم تكن سجلات الانظمة الاخرى غير العربية المحيطة بالعراق افضل في التعامل مع القضية العراقية الآن وفي السابق، كما أن سجل المجتمع الدولي هو الاخر ليس بأفضل من ذلك، فقد ساهمت شركات اوربية معروفة بعلم حكوماتها بتسليح النظام العراقي وتجهيزه حتى باجهزة تعذيب ودعمت اطراف دولية القوى الرجعية والدينية المغرقة في الظلامية في مواجهة التحولات الاجتماعية السياسية وتم السكوت عن خروقات واسعة لحقوق الانسان لفترة طويلة طالما كان النظام يؤدي دورا دوليا مقبولا، واذا ما كان علينا أن نجعل من الذاكرة القريبة، ناهيك عن الذاكرة البعيدة، معيارا لسياستنا الخارجية ولتعريف محيطنا فإن علينا ان نقاطع العالم كله.
و سواء في السياسة الخارجية أو الداخلية، فإن العواطف هي العدو اللدود للسياسة.