ينطلق العقل الطائفي من جزء من التاريخ للتأسيس لتاريخ افتراضي آخر، موازٍ وبديل للتاريخ الواقعي، إنه يؤسس لتاريخ سلبي، فهو يتناول جزءا من الوقائع وما حدث بالفعل، للقول بما لم يقع جاعلا منه ما كان يجب أن يقع. إنه يلغي، مستندا إلى الأحقية، التاريخَ الواقعي لاغيا حضاراتٍ بكل ما رافقها من انجازات في مجال الفن العمارة والادب والفكر مختزلا اياها إلى مجرد اغتصاب للسلطة. ويتجاهل حتى الاشادة العالمية بأمثال هذه المساهمات في التراكم الحضاري العالمي برمته.
يفند الإشتراكيون الرأسماليةَ، مثلا، معتمدين جدليةً تقرُّ بأنها واقع قد حصل بل وضرورة، ثم يفككون عناصرها مخضعين هذه العناصر منفردة أولا لنقد تاريخي فيضفون على المنجزات التكنيكية والمعمارية والفنية قيمة عامة ثم ينظرون لما يستحق أن يواصل حياته ودوره في مجال الفكر معتبرينه حاملا لقيمة انسانية عامة، لكنهم في نفس الوقت ينتقدون الهدف الذي يكرس المنتج له، أي تكريس المنجز لصالح الطبقة السائدة وخصوصا التكريس الذي يسعى الى الربح أو الربح الاناني.
بل إنهم حللوا كل التشكيلات الاجتماعية السابقة للرأسمالية فوجدوا انها، إلى جانب طابعها القمعي، تشيد صروحا من الجمال الجدير بالاشادة حتى من مخالفيها، وتستحق محاكمتها تاريخيا اعتمادا على نفس المعايير التي توصلنا لها متأخرا.
ما توصلت له البشرية من تراكم معرفي يعاد استعماله لمسح حوادث التاريخ السابقة للوصول إلى حكم اكثر موضوعية، أي أن المنتج المعياري الذي تتوصل إليه البشرية في عصر متأخر من حضارتها لا يُطبّق على الفترة نفسها فقط، بل على فترات سابقة لكي يساعد على تحليل الماضي وإعادة تقييمه.

تفكيك الظواهر
لا ينقد العقل الطائفي الظاهرة ( النقد يعني تحليل ما هو سلبي وإيجابي على حد سواء )، ولا يفكك عناصرها ولا يتناول جوانبها المختلفة، ولا يلقي بالا الى ان الظاهرة المعقدة لها خالقين مختلفين وربما متناقضين يمثلون النشاط الاجتماعي بما في ذلك أفراد من الطائفة نفسها وليس النشاط السلطوي وحده، انما يعمد بدلا من ذلك إلى نسف الظاهرة والغائها بأن يعتبرها باطلا ويحاول التأسيس من العدم أو ابتداء من تاريخ quot;الاغتصابquot; لما يعتبره المسار الذي يجب أن يكون.
ليس من النادر بل من الغالب ان نجد أن ناقدي المتحقق والسالف من التاريخ، يتعاملون معه انطلاقا من هوية فاعله، سلطة أو فردا، لكي يقوموا بتسفيهها أو لكي يشيدوا بها دون النظر إلى جوهرها، فكل ما يأتي من سئٍ هو سئٌ بالضرورة وكل ما يأتي من جيد هو جيد بالضرورة. فلا وجود للفن والادب ناهيك عن الانجازات المادية المحسوسة في زمن آخر خارج الزمن الطائفي المفترض أي التاريخ السلبي البديل.
و يتحول التخندق الطائفي غلى كراهية للآخر، كراهية تقوم مقام الضرورة إلى فهمه وتفهمه. فلدى البعض ليس في ما تحققه الامارات العربية المتحدة في مجال التأسيس لبنية تحتيه ما هو جدير بالاهتمام ولدى بعضٍ آخر لم تقدم إيران اي شئ يستحق الذكر حتى في مجال الفن، هذا على سبيل المثال لا الحصر.

الأخلاق
لا يناقش العقل الطائفي قضية الاخلاق بالارتباط مع السلطة ومستلزماتها وما تفرضه من آليات مختلفة هي غير آليات التبشير الأخلاقي المجرد، انما يناقش الاخلاق المجردة ويؤسس لمفاهيم عن العدالة لا تقوم على اساس برنامج ملموس واقعي انما تراكم اخلاقي مجرد مدعوم بمواقف فردية للفرد الاستثنائي قال بها ومارسها في هذه المناسبة أو تلك بما ينسب له من خوارق الأعمال.
يكون هذا المعيار الاخلاقي الفردي بديلا عن السلوك القيمي الجمعي. فإذا لم تفعل القدوة ما فعلت لا ضرورة للفرد أن يفعل. إنه مرهون كليا بما يفعله المثال. ويحل الانتظار السلبي محل السلوك الاجتماعي الواسع. ما يلبث ذلك أن يشمل الإرشاد السياسي، فيتم الغاء الفعل الشعبي بانتظار سلوك القدوة ورأيه. وبمقدور القدوه أن يلغي الفعل الشعبي برمته، لان العامة لا تدرك مصالحها، وهذا ما أوجب فعله الارشادي الملزِم القائم على سلطة مستقلة عن كل آليات الانتخاب والسلطة الشعبية.
و حين يتحول فكر الطائفة إلى سلطة يمارس عندها دورا قمعيا شاء ذلك ام أبى وينزع عنه رداء البديل المناقض. فتحت حكم الطائفة الأخرى البلديلة من الممكن ان تكون ثمة سرقات ونهب وقتل للمخالف، وتتقلص وتزول الصورة المثالية التي طُوّرت عنها خارج آليات السلطة، ويحل محلها تبرير أو مقارنة مع الخصم، ويتم تناول ما هو سئ ومشترك مع الطائفة المبدلة، كميا وليس جوهريا.
كل نظام لا يتعرض إلى التحدي لا يكشف عن ثوابته الاخلاقية والمعيارية، التحدي الذي يواجهه نظام ما هو المحك لمدى مصداقية ادعاءاته.

العقل الجمعي
يسعى العقل الطائفي إلى تأسيس عقل جمعي لها، محاولا طمس حقيقه كونه هو نفسه في جوهره عقلا نخبويا يجعل من نفسه ممثلا للطائفة رغما عنها اذا لزم الأمر، فهو يرى واجبه أن يبصّر أفراد الطائفة بأن يدركوا أن مصالحهم ترتبط بمصير الطائفة بالكامل وأن عليهم أن يعملوا لها حصرا، ولكنهم في حقيقة الامر سوف يعملون للنخبة الطائفية فقط. ويتجاهل هذا العقل ان الطائفة لا فكرَ جمعيَّ لها وانما هي ذات تنوعات مرتبطة بعوامل كثيرة تلغي امكانية التعامل معها ككل موحد.
سعت نخبة الطائفة إلى عزلها عن الاندماج الاقتصادي الذي يؤسس لمقاربات اجتماعية انتاجية بين الافراد من طوائف مختلفة، فالطبيب يفهم الطبيب والتاجر يفهم التاجر ويشتركون في مواقف تمثل مصالحهم المهنية والطبقية ولكن الاسفين يدق بين هذا وذاك وتتم الدعوة الى التقارب على اساس طائفي بدلا من التقارب الاجتماعي ويركز الدعاة على الولاء كأولوية مطلقة.
و يصار في الوقت نفسه إلى احتكار تفسير الاحكام الدينية بما يمنع التواصل المباشر بين العبد والرب الا بوسيط يكرس الوساطة لمزيد من الارتباط الذي يجلب المصالح الاقتصادية.
و حين يخفق العقل الطائفي في مسعاه لتوحيد مصالح الطائفة وجمع نقائضها، وحين يخفق في نسب المساؤئ للطائفة الأخرى حصرا مُكذَّبا بالوقائع، يعيد الأعتبار للنخبوية جاعلا منها أمرا معلنا بدلا من استتارها فيعمل، هذه المرة، على انقاذ نخبة الطائفة التي يرى أنها تمثل نقاءها وجوهرها، وإذا ما كذبته الوقائع مرة أخرى ( وهي لاشك ستفعل )، فإنه يحاول انقاذ فرد منها جاعلا منه رمزا لحكمتها ومصالحها التي لا يطالها ولا يعرف جوهرها عموم جمهور الطائفة.
يقوم الصدع الأول إذن في إقصاء دور العامة من الطائفة التي كانت بادئ ذي بدء أداة التغيير والعنصر الحاسم في الانتصار، فيصار إلى التعامل معها على أنها لا تدرك مصالحها. وينتج عن هذا الصدع جانب آخر استقطابي بالقيام بإمرار الطائفة في مراحل وتقليص التمثيل من الإطار الجمعي الذي يشمل كامل الطائفة إلى نخبة منها أصغر ثم أصغر وأخيرا إلى الفرد الواحد الممثل لوعيها الجمعي والذي بطريقة وأخرى يصّور على أنه كائنٌ فوق ـ بشري.