شهدت الاحتجاجات الشعبية في المملكة الاردنية يوم الجمعة الماضي، والتي حافظت حتى الآن على طابعها الاقتصادي المعيشي، تصعيدا لم يكن متوقعا، رغم استجابة الحكومة، ولوجزئيا، لبعض مطالبها.

ويثير ذاك التصعيد مخاوف لدى بعض الاوساط، من ان تتجه الاحتجاجات السلمية، التي تعاملت معها السلطات الامنية بذكاء وحكمة حتى اللحظة، الى تصعيد نوعي يأخذ منحى سياسيا خلال الفترة القادمة، لا يكتفي بتنازلات حكومية على صعيد خفض اسعار المواد الاستهلاكية والمعيشية الاساسية، بل يواصل المطالبة بضرورة إقالة الحكومة بغض النظر عن القرارات التي اتخذتها وستتخذها، ومدى استجابتها لمطالب الشارع. اي ان quot;الشارعquot; في حال نجاحة في تحقيق مطلبه هذا، قد يتحرك، في وقت لاحق، ليمارس نوعا من quot;الفيتوquot; غير المباشر على اية حكومة مقبلة، وبأثر رجعي، ما لم تستجب مع مطالبه المتنامية مع كل نجاح تحققه المعارضة على مستوى الشارع. وهذا يعني ان المسألة قد تتحول من الاحتجاج على ارتفاع الاسعار الجنوني، الى الاعتراض على حكومة بعينها، ثم معارضة آلية اختيار الحكومات وتعيينها، اي الاعتراض بشكل مباشر او غير مباشر، على صلاحيات الملك الدستورية، والتي تخوله تعيين الحكومات واقالتها، وكذلك على صلاحيات مجلس النواب، بسبب افتقاره الى الشرعية من وجهة نظر شعبية بسبب شبهات التزوير التي اعترت الانتخابات الاخيرة وسابقاتها. فالحكومات الاردنية، بما فيها حكومة السيد سمير الرفاعي، هي quot;حكومات جلالة الملكquot; طالما انه هو الذي يكلف رئيسها. وفي ضوء التشكيك بشرعية مجلس النواب، فإن منح الثقة من قبله للحكومة، بهذه النسبة الخيالية التي لم يشهدها اي بلد ديموقراطي في العالم عبر التاريخ، فتح الباب امام الطعن بشرعية المجلس، وبالتالي شرعية النظام السياسي الذي يرعى ويترأس السلطتين التنفيذية والتشريعية.

كنت عارضت في مقالة سابقة فكرة إقالة الحكومة التي هي برئاسة الرفاعي، رغم تعاطفي مع الاحتجاجات المشروعة، لعدة اسباب، من بينها ان الحكومة هي quot;حكومة جلالة الملكquot;، وبالتالي فإن إقالتها، بعد بضعة اسابيع من حصولها على ثقة quot;ساحقةquot; في مجلس النواب، ينطوي عن اعتراف غير مباشر بعدم شرعية المؤسستين التشريعية والتنفيذية، فضلا عن اعتراف ضمني بأن الطرف الذي عين رئيس الحكومة، اساء الاختيار، خاصة في ضوء التجديد للحكومة مؤخرا عبر السماح بإعادة تشكيلها كما حصل.

ثمة اسباب اخرى لمعارضتي إقالة الحكومة وهي انه لا يعقل تحميل الحكومة الحالية تبعات ازمة اقتصادية مركبة ساهمت حكومات سابقة عدة في تركيبها واستفحالها، مع انه بالإمكان انتقاد بعض القرارات التي اتخذتها هذه الحكومة خلال الفترة القصيرة التي اضطلعت خلالها بمهامها الدستورية، إلا انها لم تكن قرارات جوهرية او مغايرة لما اتخذته حكومات سابقة. كما ان تغيير الحكومة لا يعني اختفاء اسباب الازمة او تبخرها بفعل معجزة سيجترحها الرئيس المقبل الذي يحلم المحتجون بقدومه على حصان ابيض. فرئيس الوزراء المقبل سيكون محكوما بالمحددات السياسية والاقتصادية ذاتها التي تكبل يد الحكومة الحالية وتمنعها من اتخاذ اجراءات توفر الرفاهية للشعب. فالنظام الذي سيحكم اداء الحكومة المقبلة هو النظام نفسه الذي يحكم الحكومة الحالية، لذا فإنه من قبيل السذاجة السياسية السعي الى التغيير لمجرد التغيير، وهو ما خبرناه خلال العقود الماضية دون جدوى.

خلاف ذلك، يستطيع جلالة الملك ان يقرر إن شاء مثلا اجراء تعديل على الدستور ليسمح بإنتخاب رئيس الحكومة بالإقتراع المباشر، او عبر تكليف الحزب او التكتل الاكبر في البرلمان بتشكيلها (على افتراض ان تكل التكتلات السياسية تمخضت عن انتخابات جديدة وفق قانون انتخابي اكثر عدالة واجراءات اكثر شفافية)، وبذلك يتخلص جلالة الملك من عبء تعيين الحكومات والعبء السياسي الاكبر لفشلها، فيبقى فوق السلطات الثلاث، ويتدخل لحل الحكومة في حال خسارتها للأغلبية البرلمانية. إلا ان خطوة من هذا النوع لا يمكن لها ان تنجح بين ليلة وضحاها وعبر سياسية حرق المراحل، بل لا بد لها من مرحلة انتقالية قد تستغرق سنوات عدة للتهيئة لها وتهيئة الرأي العام وتثقيفه والإرتقاء به وبناء الثقة بينه وبين الحكم، كما يقتضي الاصلاح ثقافة جديدة لا بد ان تشمل الحكومات والمسؤولين الذين عليهم ان يفهموا بأن وظيفتهم هي خدمة الناس لا اكثر ولا اقل.

إلا ان البيئة السياسية والاقتصادية الحالية ليست مؤاتية لخطوة اصلاحية شاملة من النوع الذي نتمناه، قبل توافر الظروف المؤاتية. ويكفي في هذا السياق التذكير بان من اوائل مظاهر الاحتجاج التي شهدناها في المملكة ضد الحكومة، قبل نحو اسبوعين، كانت في مدينة الكرك، في اطار تجمع شعبي بمناسبة الذكرى الرابعة لquot;استشهادquot; الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، الذي لا داع هنا لذكر مناقبه الديموقراطية. إذ لا اعتقد ان المعجبين بالرئيس العراقي المخلوع كانوا من المولعين بالديموقراطية وتبعاتها...


أما الحركة الاسلامية، والتي اتفق معها ومع غيرها على ضرورة الحد من الفساد الذي استشرى في السنوات الاخيرة، إلا انني ما زلت بإنتظار برنامجها للإصلاح الاقتصادي والسياسي، بعيدا عن شعار quot;الاسلام هو الحلquot; الذي لا يغني ولا يسمن من جوع. واستذكر لدى فوز حركة quot;حماسquot; في الاراضي الفلسطينية، ثم إنقلابها على حركة فتح في قطاع غزة، بأنني قلت في حينه انه ليس هناك طريقة اسلامية لجمع القمامة من الشوارع. وتغلبت quot;حماسquot; بعدها على quot;فتحquot; في فنون الفساد والقمع والاستبداد، قبل ان تعلن quot;هدنةquot; مفتوحة مستمرة مع اسرائيل تمكنت من تطبيقها امنيا افضل بكثير مما فعلت quot;فتحquot; عندما كانت تسيطر على القطاع، ولم يعد هناك مقاومة ولا ما يحزنون...

اعود للإحتجاجات الاردنية التي شهدت تصعيدا يوم الجمعة الماضي، مقارنة مع الاسبوع السابق، رغم تراجع الحكومة عن رفع اسعار مواد استهلاكية، وخفضها اسعار مواد اخرى، فضلا عن اجراءات اخرى للتخفيف من العبء على المواطن المسحوق.


فلماذا جاء التصعيد بعد تلك الاجراءات الاسترضائية؟


اعتقد ان الاداء الاعلامي للحكومة، قبل وبعد اندلاع الأزمة، مسؤول الى درجة كبيرة عن استفزاز قطاعات واسعة من المواطنين، بمن فيهم الاعلاميون الذين دفعهم هذا الاداء الى استعداء الحكومة، والى المواصلة في تحريض الشارع بشكل غير مسبوق، الى درجة انه لم يتوافر صحفي واحد في الاعلام الرسمي او الخاص، مستعد للدفاع عن الحكومة. وفيما تعامل جلالة الملك ورئيس الحكومة بهدوء وحكمة لإحتواء الازمة، اصر الزميل والصديق السابق وزير الدولة، الناطق الرسمي، على عمل كل شيء لإستفزاز قادة الرأي قبل ان يستفز القيادات السياسية الحزبية وغير الحزبية. فأقدم على وصف الاحتجاجات بأنها quot;هامشيةquot; وكأن لسان حاله يقول إن على الناس ان تحتج بوتيرة اكبر واوسع وأعنف، مستدرجا اياهم الى التصعيد، بدلا من التركيز على حقيقة الاستجابة الفورية للحكومة والتي اظهرت حساسية عالية تجاه مشاعر المواطنين. ولم يسبق ان شهدنا اية احتجاجات في الاردن من قبل اقدم خلالها المحتجون على استهداف وزير بعينه وبالإسم، كما لم اشهد اجماعا لدى الاعلاميين الاردنيين على الاستياء من اداء الناطق الرسمي كما هو الحال في مختلف المواقع الاخبارية، بما فيها المواقع الرسمية وشبه الرسمية، رغم ان وظيفة الناطق الرسمي هي كسب ثقة الاعلاميين وإقناعهم بسياسات الحكومة، لا إستعدائهم وتحريضهم ضدها.

قد يكون مفيدا للزميل السابق ان يهديء من روعه، وان يضبط اعصابه ويتناول قدحا من عصير البرتقال او عصير التفاح، لعل ذلك يساعده على اظهار احترام اكبر للرأي العام وللصحافة ولزملائه السابقين. إذ ان اكبر خطأ يقع فيه اي مسؤول، ايا كان، هو ان يعادي الصحافة او ان يستكبر على زملائه، وان يظهر ازدراء للناس واستخفافا بعقولهم، خاصة وان الحكومات اليوم لم تعد قادرة على تكميم كل الافواه كما كانت في السابق، ولعل في تونس امس، التي كانت قد تغلبت على كثير من الدول العربية في قدرتها على قمع الحريات الصحفية، عبرة لمن اعتبر.

فإلى جانب ضرورة السماح للناس بالتنفيس عن الغضب والاحباط بسبب اوضاعهم المعيشية، ما يمنع لجوئهم الى وسائل لا يريدها احد من قبيل اقدام بعضهم على حرق نفسه، لا بد للمسؤولين ان يتخلوا عن العقلية العرفية التي كانت تسود في السابق. إذ ان اقل استفزاز، في ظل الظروف المشحونة اليوم، قد تقود الى نتيجة ليست في مصلحة احد...

وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، التخلي عن سيادة القانون او عن تطبيقه بالعدل ازاء كل من يضر بالمصلحة العامة او بالنظام العام.


خلاصة القول هي إنه لا بد من المباشرة بعملية اعادة بناء الثقة المتبادلة تمهيدا للإصلاح السياسي والاقتصادي التدريجي، بعد مرحلة انتقالية لتهيئة الاوضاع المناسبة، بعيدا عن اية قرارات او خطوات قد تقود الى زعزعة الاستقرار. فالحكومة الحالية مستعدة كغيرها لتنفيذ الاوامر الملكية تماما كأي حكومة اخرى يمكن تعيينها، وتغييرها اليوم لن يحقق شيئا من المطالب المشروعة، بل سيقود الى ترحيل الأزمات، مع جرعة تخدير مؤقت، دون علاج حقيقي، ثم يعود بعدها الالم اكثر حدة وخطورة...


* كاتب اردني

[email protected]