ربما ان مئات من السنين بما فيها من تراكم للقيم السلبية والعادات السيئة والسلوكيات المتوارثة من جيل الى جيل، انتجت انماطا من السلوك والظواهر تحت عناوين شتى من العباءات والقيم الاجتماعية بما يجعلها مشروعة او مقبولة في حدها الأدنى، رغم اختلاف الأزمان وتطور المجتمعات لكنها بقيت حتى لسنوات ليست طويلة واحدة من النوازع او التصرفات غير المستهجنة على اقل تقدير، وهي عمليات الغزو والسرقة والنهب والسلب تحت مختلف التسميات او التبريرات.

ففي العقود الغابرة كانت كثير من الممارسات التي يعاقب عليها القانون ويقف بالضد منها، تبيحها الأعراف او في الحد الأعلى لا تستهجنها، وعليه فقد كانت سائدة في كثير من المجتمعات، ومدعومة بكثير من المفاهيم والأعراف الجاهلية التي تختزنها وتنتجها المجتمعات البدوية والقروية عموما وتضعها في خانة الشجاعة والفروسية، وليست عمليات الغزو بين القبائل التي كانت سائدة الى ما قبل عشرات السنين الا واحدة من تلك الممارسات التي شاعت بين الناس وأصبحت مقبولة حتى بنتائجها المأساوية، هذه الغزوات او الممارسات التي تعرف اليوم بكونها جريمة عدوان واغتصاب وقتل وسرقة مصحوبة بالقوة او النهب والسلب، وهي واحدة من الجرائم الكبرى المخلة بالشرف، كانت جميعها تبرر تحت سقف الغزوات بين القبائل او القرى، ولم تكن من العارات بل كانت من المواقف والبطولات التي تتحدث بها المجتمعات في تلك الحقبة بكثير من الفخر والاعتزاز، وهي مليئة بالمآسي والمخازي!؟

لقد كان السارق الى تلك الفترة من السنوات يعتبر رجل الليل الشجاع الذي لا يعيبه هذا الفعل الشنيع، حيث يطلق عليه في كثير من المجتمعات المحلية بـ ( الحشنشل ) الذي يتميز بالشطارة والجسارة في مداهمة البيوت الآمنة ليسرق أموالها وربما يقتل أصحابها أيضا إذا ما تطلب الأمر، بل على العكس كان محط إعجاب الكثير من الناس، فقد كان الشرف الشخصي وما يزال حتى يومنا هذا في كثير من المجتمعات، يتكثف ويختزل بالأعضاء التناسلية لكلا الجنسين بصرف النظر سلبا أو إيجابا عن ممارسات صاحبه خارج تلك المنظومة المحصورة هناك، بمعنى إن السرقة او القتل او الكذب او الاغتصاب او النفاق والتدليس والعبث بالأموال العامة ومصالح البلاد العليا والدنيا، لا يؤثر على سمعة الشخص وهويته الاجتماعية طالما كان شرفه الجنسي سليما معافى!؟

صحيح إن جل هذه الممارسات كانت قبل عقود من الزمان وربما كانت تتركز في القرى والأرياف التي انتقلت بكثير من سلوكياتها وممارساتها الى المدن الكبيرة وأطرافها وشكلت مجتمعات هجينية مشوهة الشكل والمضمون أثرت بشكل سلبي على تطور المدن ومجتمعاتها المدينية وتسببت في فقدان خصوصية كليهما الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية، الا أنها أيضا لم تسمح لتلك المدن ومجتمعاتها عبر كثير من هذه المراحل في احتواء تلك المجاميع القروية وتمدينها، بل حصل العكس إذ انتقلت كثير من العادات والتقاليد والممارسات القروية والبدوية الى المدن، مما أغرقها بأنماط من السلوك والتصرفات وأضفى عليها صبغة لا تتلائم مع نمط المدينة ونهجها ومراحل تطورها.

وإذا كان ما حصل من عمليات سرقة منظمة لأموال الدولة ومكتنزاتها من قبل النظام السابق وقياداته وتهريبها الى خارج البلاد قد وضع في خانة رد الفعل لما حصل على خلفية ان البلاد تعرضت لاحتلال من قبل قوى اجنبية وانهم اقنعوا انفسهم باستباحة المال العام، فكيف نعلل ما حصل من عمليات سلب ونهب واسعة النطاق شملت معظم انحاء البلاد، ووصلت الى ذروتها في الاستحواذ على موجودات الدوائر والمدارس والجامعات من كل شرائح المجتمع باستثناءات لا تقارن مع حجم الكارثة التي وقعت!؟

لم تمض الا سنوات قليلة الا واكتشفنا اجيالا جديدة من خريجي تلك المدرسة التي اباحت عبر مئات السنين الاستحواذ على كل شيء بالسرقة او الغزو او السلب والنهب، وما يرافق تلك العملية من اغتصاب او قتل وايذاء في عمليات منظمة ونوعية بالشكل والمضمون من حيث الاختلاس والسرقة والفساد، التي تجاوزت مستوياتها القياسية في أي دولة اخرى من دول العالم، حيث اشتركت فيها مجموعات من مسؤولي الدولة بمختلف الدرجات الدنيا منها والعليا، والتي تحولت فيما بعد الى اخطبوط او مجاميع من مصاصي دماء يسرقون كل شيئ من خلال تواجدهم في مواقع مهمة على مختلف الأصعدة، حيث الانتشار المريب والكبير للاختلاس والرشوة والاستحواذ على المال العام بشتى الطرق والوسائل، وتحت عناوين ومسميات مختلفة ابتداءً من تأسيس الكثير من المنظمات والجمعيات التي تدعي انها تمثل المجتمع المدني وتستنزف اموالا بوسائل ملتوية ومشبوهة من الداخل والخارج، وصولا الى الصفقات الوهمية وما يرافقها من قومسيونات وعمولات على مشاريع خدمية او اعمارية، اما وهمية هوائية، او تنفذ بنسب اولية وتباع الى مقاولين آخرين، وهكذا دواليك في متوالية ومتوازية فسادية وافسادية لايفقهها الا الراسخون في سرقة الكحل من العيون واللعب على الحبال التي انتشرت منذ السقوط وحتى يومنا هذا.

والطامة الكبرى هي وصول العديد من هؤلاء المشبوهين الى مراكز القرار القريبة من مواقع حكومية وتشريعية مهمة كالوزارات ومؤسساتها، ومجلس النواب ولجانه، وكثير من المؤسسات المالية المرتبطة بالنفط والكهرباء والدفاع والداخلية والعدل وغيرها من دوائر الدولة، مما يسيء الى سمعة البلاد التي تم تصنيفها نتيجة تلك الممارسات في الاختلاس والسرقة، بواحدة من أكثر دول العالم فسادا في المال والإدارة، وهي بالتالي اهم ما يواجه الحكومة والبرلمان الجديدين وكل الخيرين من الوطنيين العراقيين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب والأحزاب في كشف هذه المجاميع واستئصالها وتقديمها الى محاكمات علنية امام الرأي العام، قبل فوات الأوان وفوران تنور الشعب!؟

إن ما يحصل اليوم من التهاب شديد وتحرك تاريخي في الشارع الشعبي لدى اكثر النظم شمولية في المنطقة، سواء في تونس او مصر والجزائر وغدا لدى اقرانهم ممن يماثلوهم في الاستبداد والفساد المالي والإداري، قد أشعل عاملا مهما آخرا ليس كما يعتقد الكثير من المراقبين والمحللين بانه العامل الديمقراطي او القومي فقط، بل هو عامل العدالة الاجتماعية والاقتصادية والشفافية في المال العام ونوعية الإدارة ورموزها، وعمليات الفساد والإفساد المالي والإداري وبطاناتهما التي تنخر في المجتمعات، فلقد شهدنا جميعا ما كانت تريده جماهير تونس ومصر، حيث لم يطالب أي من تلك الملايين بمنصب الرئيس او ثروته او ما يملك بل طالبوهم بترك السلطة لفساده وبطانته، ونادوا بالعدالة والشفافية وإيقاف الفساد ومحاربته، وإحقاق الحق ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.

[email protected]