واقع مصر الذي تكّشف بعد ثورة 25 يناير بكل ما يحمله من معاناة للبشر،وظلم إجتماعي كبيرللناس، وتلك الحالة من الفقر والإفقار التي شملت أغلب المصريين،نكأ ذلك الواقع المتدهور جراح العزة والكرامة لدي الشعب المصري الأصيل الذي يتميز بقدرته الفائقة علي الصبر والإحتمال.

هكذا جسد ذلك الواقع برنامج quot;واحد من الناسquot; لمقدمه الإعلامي المصري عمر الليثي الذي تبثه قناة المحور المصرية،فقد إستطاع مقدمه أن يكسر أسوار الأستديو لينطلق الي عالم أكثر رحابة وواقعية، واعمق في المصداقية من تلك الحوارات الرتيبة المملة التي تدورداخل الإستديو علي مقاعد وثيرة، بعيداً عن واقع الناس وأحوالهم ومشاكلهم.

لم تكن حلقات البرنامج التي يشاهدها المصريون في سلسلة من حلقات متصلة مخصصة لسبر أغوار بؤر الفقر ومعاناة الإنسان المصري ومدي البؤس الشديد الذي يحيط به خاصة سكان العشوائيات اللذين يعيشون في حزام الفقر المحيط بالعاصمة المصرية القاهرة، إلا صورة صادقة وجلية لمجتمع أصابه نظام حكم أستمر ثلاثون عاما بكل أنواع العلل والأمراض النفسية والجسدية.

عادت بي مشاهدة عدة حلقات من البرنامج الي رائعة طه حسينquot; المعذبون في الارضquot; تلك الرواية التي كتبها في أربعينيات القرن الماضي عن حالة المصريين الفقراء وغياب العدالة الإجتماعية في المجتمع وزيادة تخمة الطبقة الثرية التي ساعدت في تهميش هؤلاء الفقراء،ودون أي عناية من الدولة، حتي أن روايته هذه من شدة تأثيرها ونقلها لصورة مجتمع غلب فيه الظلم وغابت فيه العدالة، جعل البعض يصفها آنذاك بأنها تمثل ثورة علي النظام القائم حيث كان طه حسين شديد السخرية من نظام الحكم، فهو يطوف بالقارئ عبر قصص الرواية الإحدي عشر المختلفة ساخراً من النظام الحاكم الذي يعامل شعبه من الفقراء تلك المعاملة اللاآدمية، فحياة هؤلاء الفقراء التي صورها في قصص الكتاب المختلفة كانت تنتهي في مساء كل يوم بعد طول عناء في إحدي تلك الغرف الحقيرة التي يعيشون فيها حيث تقتل فيها آدمية وكرامة الإنسان كل يوم، مثل هذه الغرف الحقيرة هي نفسها التي يعيش فيها الفقراء الأن في العشوائيات التي صورها وفضحها برنامج واحد من الناس والتي تسميها الحكومة وكبار الساسة غرفاً وبيوتاً وهى ليست أكثر من حظائر للحيوان دون أي تمييز.

رغم مرور كل تلك السنوات بين الرواية والبرنامج، فإن حياة فقراء مصر لم تتغير، إنها نفس صورة فقر الأربعينيات التي نقلتها عيون كاميرا 2012، الفرق الوحيد ربما يكمن فقط في تطور التقنيات التي تنقل للعين تفاصيل ربما يعجز القلم عن تصويرها، فها هو مقدم البرنامج يطوف بك في عالم اللامعقول عالم البؤس والظلم الإجتماعي في تلك المناطق شديدة العشوائية التي تقع علي تخوم مدينة القاهرة ويسكنها الملايين من الفقراء.إن أقل وصف يمكن أن توصف به تللك العشوائيات ليس اكثر من انها مناطق تنتمي الي عصور ما قبل الحضارة، كل شئ فيها صادم، حياة لا تليق بأدميين، بل لا تليق بالحيوان نفسه، أناس يسكنون فوق المجاري ويتكدسون فوق بعضهم في غرف غير صحية وغير آدمية تحت الأرض مهددة بالسقوط في اي لحظة،أطفال أرتسمت علي وجوههم بؤس الحياة وظلم الإنسان للإنسان فهم مهمشون ليس لهم حقوق ولا أمال ولاطموحات لا في التعليم ولا في الصحة ولا حتي في الحياة.

إن طه حسين الذي عبر تعبيراً صادقاً في روايته الخالدة المعذبون في الإرض عن حال فقراء مصر والتي ترجمها بالكاميرا عمر الليثي بعد عشرات السنين علي نفس الأرض المصرية، لم يكن ذلك إلا فضح لسياسات حكومات مصر المتعاقبة عبر العصور مع الفقراء، فلم تضعهم علي خريطة الأولويات كما وضعت الأثرياء ورجال الأعمال في العصر الحديث، مع الإشارة الي إستثناء وحيد حدث في فترة حكم جمال عبد الناصر التي إنحاز فيها فعلياً وعملياً الي الفقراء بعكس نظام حسني مبارك شديد الإنحياز الي الأغنياء علي حساب الفقراء.

إذن تري لو أراد طه حسين تسجيل حالة المصريين الفقراء في عهد حسني مبارك ماذا كان سيكتب؟ خاصة وان المناظر التي شاهدناها عير شاشة الكاميرا للفقراء لايستطيع الإنسان وصفها بحال حتي أن مقدم البرنامج كانت تنتابه الصدمة ويكتفي بالقول حسبنا الله ونعم الوكيل في هكذا سياسيين وحكومة، لقد عبر طه حسين في نهاية واحدة من قصصهquot; سخاءquot; اصدق تعبير بعد أن ضجر بهذا الوضع الإجتماعي المتأزم في مصرآنذاك فقال الي اين يستطيع الإنسان إذن أن يجد المفر هل يجده في الزمان أم في المكان ؟ لكنه يقول من وجهة نظر الكاتب المثقف المفر إلى التاريخ إذن، والى أحاديث القدماء، فقد ملأ المعاصرون قلوبنا يأسا ونفوسنا قنوطا، لنهجرهم، ولنهاجر في الزمان إذا لم تتح لنا الهجرة في المكان، وان أعجزني الفرار إلى بلاد أخرى، فلا أقل من أن أفر إلى زمان آخر من أزمنة التاريخ.

إذا كان طه حسين إختار المفر إلي أزمنة التاريخ فهو بالقطع لم يكن يعرف أن المصريين قد صنعوا تاريخا جديدا في ثورة 25 يناير 2011 يفرون اليه الآن.

[email protected]