وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً. صدق الله العظيم. لا يوجد أعظم و لا أجل من تلك الاية في علاقة الابناء بابيهم و أمهم.

و لقد تقصدت الكتابة عن حالات العقوق التى باتت واضحة في المجتمعات العربية تحت مسميات مختلفة و باسباب عدة منها الافلام و النقل عن الغرب و شيوع الفساد و الانحلال الاسري و غياب دور الام وغيرها، مع تزايد ظاهرة البعد عن القيم و الدين.

أم سعيد الغسالة
و لعل من القصص و المشاهد التى مررت بها، هي من الحكمة ان اذكرها لانها عالقة في ذهني بعد اكثر من اربعين عاما و نيف، منذ ان كانت quot;ام سعيد quot; الغسالة تأتي كل يوم ثلاثاء الى البيت عندنا، لم يكن هنالك غسالات فل اتوماتيك و لا نص اتوماتيك و لا غسالة من اصله. بل ان اول غسالة حصلنا عليها تم احضارها بالباخرة quot;سوريا quot; من بيروت، و كانت اعجوبة في نهاية الستينات.

فصل الالوان و التمريغ (النقع في الماء ) و الضرب و التنقية و الغسيل في المياة الساخنة و الشطف في المياه البارده ثم النشر على الاسطح في الشمس و مشابك خشبية و حبل الغسيل و الهواء و بعدها الطي و الكوي..كانت تلك عمليات تستغرق يوما كاملا من الجهد و العرق و التعب تقوم به ام سعيد التى تغسل و تعصر على يدها و هي تتجلس امام quot;الطشت quot;التى غنت له عفاف راضي، تجس ام سعيد على كرسي خشبي صغيرارتافعه لا يزيد عن عشرين سنتميتر في الحمام بين وابور الكاز و الاخر، و صوت النار و اللهب مخيف. كان يبدء عملها السادسة صباحا لتتمكن من غسل كل الملابس و الشراشف و اوجه المخددات و القمصان و الملابس بانواعها ثم تنشر الغسيل و تطويه و تكويه، ينتهي دوامها السابعة مساءً ان لم يكن بعد ذلك، لتلتف بالملاية السوداء و تضع اجرها في صدرها بعد ان تشكر الله و تقبل الخمسين قرشا !!!!.quot;ام سعيد لم تدرس في امريكا، لم تكن ابنه اسرة ثرية، لم تذهب الى السيربون، ام تكن طبيبة او محامية، لكنها كانت اما بكل معاني الكلمة، احسنت التربية و صمدت لانها تعرف الله و تشكره و لسانها مليء بالشكر لا بالتمرد.

بالمناسبة كانت تذكرة الترام في الدرجة الاولى قرش صاغ و الدرجة الثانية نصف قرش، وكان بالامكان شراء سندوتش الفلافل مع زجاجة الكولا المصرية بقرش و نصف و تذكرة السينما في الصالة سبعة قروش و نصف في سينما متروقبل ان ترتفع الى تسعة.

لم تكن الغسالة التى انتجت عام 1691 بدون كهرباء وصلت الى الدول العربية، و لم تكن جنرال الكتريك اخترعت الغسالة الكهربائية 1949 بعد، و من مهام quot;ام سعيد quot; ان تقوم باشعال quot;وابور الكاز quot; و نفخه لترتفع السنه اللهب، و عددهم اثنان و كل منهما يحمل صفيحة (تنك من صفائح السمنة ) مليئة بالماء الساخن المغلي و الذي يتم وضع فيه quot;الزهرة الزرقاء quot; و كانت اشهر الماركات quot;زهرة النيل quot; لتبيض الملابس، حيث لا يوجد كلور او داوني او برسيل او تايد. الصابون المبشور العادي و فلقة صابون مكعبة هو السائد.

د. عبد الفتاح طوقان

يدان في الماء الساخن، و ملقط لرفع و انزال الغسيل بحذر، كانتا بلا واقي، حيث لم يكن هنالك بعد quot;جوانتيات quot; حامية للايدي، و يد ام سعيد في المياة الساخنة و هي تجلس بين نيران وابور الغاز و كأنها في موقعه حربية، و بلا شك في حالة غير امنه امام اللهب، تقوم بكل نشاط بغسيل ناصع البياض. سيدة استمرت اكثر من عشرين عاما، في كل البيوت، مع كل صباح الى كل مساء تعمل و تكد و تتعب، و تعرض نفسها للخطر لاجل ان تعلم ابنها quot;سعيد quot; و الذي كان يأتي كل يوم و قبل ذهابة الى المدرسة معها لتناول الافطارقبل بداية العمل، و ما تيسرمن حليب و فول، ثم يقوم بتقيبل يدها و يذهب الى دراسته.. لا يمكن ان انسى منظرquot;سعيد quot; و هو يدق باب منزلنا و يطلب والدته ام سعيد، و عندما تخرج مسرعة قائله له quot;كم مرة يا سعيد قلت لك ما تجيش وقت الشغل، ده اكل عيش quot;، فيصرخ سعيد فرحا و هو يقبل يد امه قائلا : ياامي لقد قبلت في كلية طب الاسكندرية.دموع الفرح مبتلة بماء ساخن و صابون الغسيل و حضت الام الحنون و دموع اغرورقت بالدموع، و عملت ام سعيد سنوات الى ان اصبح سعيد طبيبا، و لم يتوقف عن تقبيل يد امه و عندما ذهبنا الى سرادق العزاء عندما توفت بعد ان اصبح طبيبا شهيرا، قال و الدموع في عينيه لقد افتقدت اما غسلت في كل بيت لاجل ان اكون طبيبا، و انا اليوم افتقد تلك اليد النظيفة و الام quot;الغسالة quot; التى افتخر بها و تعرفونها جميعا. انني مدين لها، لم يتكبر، لم ير انها شيئا مخزيا، لم ير انها تقلل من قيمته، على العكس كانت النقطة المضيئة،و استمرت حتى بعد ان اصبح طبيبا تأتي سرا و تقوم بالغسيل لانها مهنة شريفة و احبها الناس و احبتهم و شكلوا معا طريق النجاح لطبيب يشع من وجهه الاحترام و الادب.

آيفون الخياطة
أما quot;أم جورج quot; فكانت تأتي في يوم من ايام الاحاد بعد صلاة الكنيسة لانها مؤمنة متدينة، و تقوم بالتفصيل و الخياطة في منزلنا، لم يكن هنالك ملابس جاهزة بالمعنى المتعارف عليه، و كانت امي تحضر من مجلة البوردا القصات و الموديلات، و تساعدها في قص قطع القماش، و منها عرفت ان الفستان العادي يحتاج الى ثلاثة يارد الا ربع، و كيف يمكن قص القماش بالعرض او الطول لتطابق الرسومات.كانت لدينا ماكينة خياطة كهربائية، سنجر، و اخرى تدار باستخدام الارجل، و كنت ارى قمصاني يتم استبدال quot;الاساور و الياقة quot;، حيث كانت القمصان تأتي و معها ياقة و اساور اضافية، و بعد استخدامهما لفترة يتم قلبهم حفاظا على المال و عدم التبذير.

كانت quot;ايفون quot; خياطة لا تترك دقيقة دون ان تعمل، تحضر كل شيءقبل الجلوس الى الماكينة باتقان، الدبابيس، الكوشان، المقصات، الابرة و الفتلة لعمل سروج الفساتين و السرفلة، و كانت تحدثني عن علاقة الخياطة و الموديلات بالهندسة و كيف ان ابنها يقدم امتحانات التوجيهي و يرغب في دراسة الهندسة. كانت تشكو من عرق النساء لانها تستخدم رجلها في تشغيل الماكينة لساعات و لديها نظارة سميكة من كثرة السهر و استخدام الابر الرفيعة و quot;لضم الخيط quot;، اي ادخال الخيط في خرم الابرة.

و فعلا نجح ابنها و حصل على شهادة التوجيهي و التحق بكلية الهندسة قسم الكهرباء و تفوق و اصبح معيدا ثم ذهب للعمل في الكويت، و لم ينقطع عن والدتة و فتح لها محل خياطة ومن ثم اتيليه. شاهدت ايفون تسقط من الاعياء في منزلنا لانها استمرت في العمل من السادسة الى العاشرة مساء دون توقف، تريد ان تنهي فساتين عيد الاضحى لاكثر من اسرة، و كانوا من صديقات والدتي، و الاهم انها كانت بحاجة الى عشرة جنيهات اضافية لشراء كتب جامعية لابنها..منتهى التضحية و الايمان بضروة الكفاح، و مع كل مساء كان ابنها يأتي و يساعدها في ترتيب اغراضها، و مع كل مساء كان يقبل يديها. كانت ايفون سريعة في التفصيل و الخياطة و لديها امكانية تجهيز فستانين في يوم واحد و ثلاثة بمساعدة و الدتي.

أم سعيد و ايفون، كلاهما نماذج من حسن التعامل، من الاخلاق، من الشرف، في نوعية العلاقة بين الابن و الام، لم يكن هنالك مقاطعة في الحديث، لم يكن هنالك مخارج لفظية سيئة، لم يكن هنالك صراخ، لم يكن هنالك تذمر، لم يكن هنالك تنكر و انكار لما تقوم به الام او الاب.

تلك نماذج من الحياة، لولا الزعيم جمال عبد الناصر لما دخلت الجامعات، و لما قدم لها العلم المجاني و الدراسة لانها كانت حصرا على طبقة معينة من الاثرياء.
اليوم، هنالك حالات مختلفة مع ارتفاع رسوم التعليم الى حد لا يطاق، و الابن يتنكر لابيه و يكذب ليخفي اصله و اهله، مثلما شاهدنا في فيلم quot; انني لا اكذب و لكن اتجمل quot; لاحمد زكي، حقا اننا نعيش زمن التنكر والانكار لكل ما هو جميل ولكل ما تربينا عليه.

اقصد القوا انه لا اهمية في الحصول على شهادات الدكتوراه من اعرق جامعات بريطانيا و فرنسا و امريكا اذا ما غاب الادب و لاحت السلوكيات المزعجه و غير اللائقة.
ام سعيد، ام جورج، ابو محمود، ابو عيسي نفتخر بهم لحسن تربيتهم و فعلا سلمت يداهم على عظمة سلوكيات ابنائهم، انهم درسا واقعيا، تخزينا في الذاكرة للتربية، وهم عظة للابناء في كل المراحل و حتى لحاملي شهادات الدكتوراه.

quot; اللهم ارحمهم كما ربيا ابنائهم quot;

عقوق الأبناء نهايته الندم
كل من نسى ان الانسان يكبر بعرفانه بالجميل لاهله، وتناسى انه يكبر بالتواصل مع ابيه و امه، و يتندر و يعيبه ان كان ابيه فقيرا او في وظيفة دنيا او علما اقل، و كل من يحقر اباه او امه او يعتقد انه حقق نجاحا منفردا او اكثر منهما او شهادات او اموالا و يضعهما في مقارنة مع نفسه و الاخرين هو انسان واطي، سيء التربية و لو حصل على نوط الامتياز من هارفرد الامريكية و حقق الملايين.

الاهتمام بالثروات و تحقيقها على حساب ادبيات التعامل مع الاهل وعدم احترامهما، و المساخر و التعالي عليهما، و الالفاظ النابية تحت مسمى الحريات الشخصية تخطت الحدود و المسموح و غير المسموح في ظاهرة تعمقها مجتمعات ابتعدت عن القيم و الدين، و لم يعد احد يهتم بتوجيه المجتمع، و تراجع دور وزارات التربية و التعليم و تلك افة و ستشكل اذي خطير على المستقبل الاسري.

تمرد الأبناء على الآباء عقوق بدايته تأفف ونهايته الندم، مما يدفعنا الى قصيدة العلم و الاخلاق لشاعر النيل حافظ ابراهيم و الذي قال:
والمـال إن لم تدخره محصنا بالعلــم كـان نهايـة الإمـــــلاق
والعلــم إن لم تكتنفه شمائــل تعليه كان مطيـــة الإخـفــــاق
لا تحسبن العلــم ينفع وحـــده مـا لم يتـوج ربــــه بخــــــلاق
من لي بتربية النساء فإنهــــا في الشرق علة ذلك الإخفــــاق
الأم مــدرسـة إذا أعــددتـهـــا أعـددت شعبا طيب الأعــراق

[email protected]