معادلة غريبة حقاً وعسيرة جداً على الفهم تلك التي تتعلق بتمتع الأقليات المسيحية بأوضاع أفضل في ظل الأنظمة الدكتاتورية. ثلاث دول عربية تحتضن أكبر عدد من المسيحيين في الشرق الأوسط أكدت هذه المعادلة في العقود الأخيرة. الدول هي مصر والعراق وسوريا. تكاد تتفق الغالبية العظمى من المسيحيين في الدول الثلاث على أنها عاشت في سلام وطمأنينة وراحة بال في ظل حكم أنظمة جمال عبد الناصر في مصر وصدام حسين في العراق وحافظ الأسد ومن بعده نجله بشار في سوريا. لم تكن هناك احتكاكات طائفية تذكر حين كان الحاكم جباراً ومتسلطاً. في معظم الأوقات كانت هناك مساواة أو شبه مساواة بين المواطنين، في الحسنات والسيئات. لم يكن هناك تمييز سلبي فج ضدهم بسبب مسيحيتهم. لم يوجد من كان يجرؤ على شن اعتداءات طائفية ضدهم. لم يكن هناك اضطهاد منظم للمسيحيين في هذه البلاد عندما حكم زعماؤها بقبضات فولاذية. كانت مشاكل أقباط مصر عندئذ هي نفسها مشاكل المسلمين من المصريين، وبالمثل كانت المصاعب التي واجهت سريان وروم سوريا هي نفسها المصاعب التي واجهت المسلمين من السوريين، وانطبق الأمر ذاته على كلدان وأشوريي العراق الذين فرحوا وحزنوا مع مسلمي بلدهم. كانت مشاكل الوطن هي مشاكل كل إنسان عاش في الدول الثلاث بغض النظر عن الانتماء الديني. كان المسيحيون يستمتعون بنفس الحقوق التي حظي بها المسلمون، وكانوا أيضاً يعانون من نفس المتاعب التي عانى منها المسلمون.

الأمر يختلف تماماً اليوم في البلدان الثلاثة. لم تعد مشكلات الأقباط بالضبط هي نفسها مشاكل مسلمي مصر، وبالمثل لم تعد المصاعب التي تواجه السريان هي نفسها مصاعب مسلمي سوريا، كما لم تعد متاعب الكلدان والأشوريين هي ذاتها متاعب مسلمي العراق. المواطنون، مسلمون ومسيحيون، لهم مشاكلهم العامة سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية، ولكن تضاف إلى المسيحيين مشاكل طائفية خاصة بهم. وإذا كان أقباط مصر قد تجرعوا كاس الاضطهاد منذ رحيل جمال عبد الناصر قبل ما يزيد عن أربعة عقود، إلا أن الاضطهاد يعتبر أمراً جديداً على الجيل الحالي من مسيحيي العراق وسوريا، فقد عرفه مسيحيو العراق قبل نحو عشر سنوات حين قامت القوات الأمريكية بعزل صدام حسين، وعرفه مسيحيو سوريا في السنتين الأخيرتين بعدما فقد بشار الأسد قبضته على زمام الأمور هناك.

بدأت المشاكل الطائفية تطفو على السطح في مصر عندما أراد أنور السادات التمرد على الأيديولوجية الناصرية التي تربى وترعرع فيها ومن خلالها. أبعد السادات مصر عن المعسكر الشرقي وسعى نحو التحالف مع المعسكر الغربي. كانت هناك تعديلات يجب أن تدخل على الحياة السياسية في مصر حتى يصبح النظام الساداتي مقبولاً من قبل المعسكر الغربي. كان الانفتاح هو كلمة السر. ورغم أنه كان انفتاحاً صورياً غير حقيقي، لأن الانفتاح السياسي والاقتصادي لابد وأن يكون مصحوباً بانفتاح اجتماعي، وهو ما لم يحدث، إلا أن السادات أراد أن يظهر أمام العالم كزعيم ديمقراطي ومصلح سياسي من طراز فريد. لذا فقد قام السادات بإطلاق سراح قادة جماعة الإخوان المسلمين المتطرفة الذين كان سلفه جمال عبد الناصر وضعهم خلف القضبان عندما تبينت له شرورهم. كان إطلاق قادة الإخوان نقطة انطلاق الحركة الإسلامية المتطرفة. سمح السادات للجماعات الدينية بالاستفحال وكان الأقباط هم الضحية المباشرة للحركة الإسلامية. عانى الأقباط منذئذ من عمليات اضطهاد منظمة ومنتظمة. وبعد اغتيال السادات أدرك حسني مبارك خطورة الحركة الإسلامية بكافة فروعها، فسعى للسيطرة عليها عبر الحوار تارة، خاصة مع قادة الإخوان، وبالسلاح تارة أخرى، خاصة مع التنظيمات الإرهابية الجهاد والجماعة الإسلامية. لم تفلح مع التطرف والإرهاب كافة المسكنات التي حاول حسني مبارك استخدامها، وبقي الأقباط هدفاً رئيسياً للجماعات الإرهابية طوال الثلاثين عاماً التي قضاها في الحكم. وقد ازداد الأمر سوءاً بعد تنحي مبارك وما تبعه من انتشار للفوضى، وظهور مكثف لشيوخ متطرفين وإرهابيين ملوثة أياديهم بالدماء، ومجيء متطرفي الإخوان والسلفيين إلى السلطة، حتى أصبح اضطهاد الأقباط اليوم مقنناً ودستورياً.

تكرر الأمر مع بعض الاختلافات في العراق، إذ بدأ المسيحيون العراقيون تذوق الطعم المر للاضطهاد عام ٢٠٠٣ بعدما قرر الرئيس الأميركي السابق جورج بوش تحرير العراق من حكم صدام حسين. غير أنه مع نجاح القوات الامريكية في إزالة صدام عن عرشه لم تستقر الأمور في العراق كما توقع الأمريكيون. انتقل العراق إلى حرب طائفية شاملة بين الشيعة والسنة اشعلتها جماعات إرهابية كتنظيم القاعدة. لم يشترك المسيحيون في الحرب الأهلية ولم يساندوا طرفاً ضد أخر وأبقوا على أواصر المحبة التي جمعت بينهم وبين المسلمين من الشيعة والسنة العراقيين. لكن الأمور تطورت سريعاً وأصبح المسيحيون هدفاً مباشراً للجماعات الإرهابية. لم تسع القوات الأمريكية لحماية المسيحيين خوفاً من اتهامها بمحاباة المسيحيين، ولم تنجح قوات الأمن العراقية الناشئة وغير المدربة في توفير أدنى درجات الحماية للمسيحيين. كانت النتيجة أن شهد العالم مذابح ومجازر للمسيحيين راح ضحيتها الألاف. ومع الضغوط والتهديدات وتصاعد عمليات الاضطهاد لم يجد مسيحيو العراق مفراً من مغادرة وطنهم. وتشير تقارير إلى أن نحو ثلثي مسيحيي العراق قد غادروه في الوقت الذي تم تهجير معظم من لم تسنح لهم فرصة الهجرة إلى المناطق الكردية في الشمال.

أوضاع مسيحيي سوريا بعد اندلاع الحرب الأهلية لم تكن أحسن حالاً من أحوال نظرائهم المصريين والعراقيين. منذ بداية الثورة على نظام بشار الأسد اتخذ المسيحيون موقفاً متحفظاً منها. لم يكن سهلاً على مسيحيي سوريا الانقلاب على نظام الأسد الذي لم يتسامح مع أي نوع من الاضطرابات الداخلية ولم يفتح الباب أمام أية نشاط للجماعات المتطرفة كجماعة الإخوان المسلمين. كان النموذجان المصري والعراقي على الدوام في أذهان مسيحيي سوريا الذين كانوا يفتخرون بالسلام الاجتماعي والتسامح الطائفي الذي كانوا يستمتعون به مقارنة بمصر والعراق. كان الخوف من المستقبل المجهول الذي يمكن أن تأتي به الثورة، وبمعنى أخر كان الخوف من تكرار تجارب مصر والعراق العامل الأول في الموقف المتحفظ من الثورة على الأسد. وضعت الاضطرابات المسيحيين في موقف لا يحسدون عليه. كان عليهم إما دعم ثورة غير مضمونة النتائج أو مساندة نظام آيل للسقوط. يا له من خيار ويا له من مأزق. تطورت الأمور سريعاً ومن دون إنذار مسبق حين اتهمتهم بعض قيادات المعارضة بموالاة نظام الأسد. واكتملت مأساة مسيحيي سوريا مع دخول عناصر إسلامية جهادية لمحاربة نظام بشار الأسد، فبدأت عمليات التهديد والاعتداء والخطف والتشريد والقتل تنتشر في الأحياء والقرى المسيحية. بلغ الأمر أن قامت عناصر مسلحة معارضة لنظام الأسد بتفريغ بعض المدن من مسيحييها. ولعل قيام ميليشيات لواء الفاروق بإجبار نحو ثمانين ألف مسيحياً على الرحيل عن حمص في إطار حملة تطهير دينية عنصرية لدليل على حجم الاضطهاد الذي يعاني منه مسيحيو سوريا اليوم.

مأساوية بكل المقاييس هي أوضاع مسيحيي مصر والعراق وسوريا. ولعل ما يعمق إحساس من يتعمق في الأمر بالألم هو قيام النظم الدكتاتورية بتوفير أوضاع أفضل للأقليات المسيحية من تلك التي توفرها الأنظمة التي يفترض أنها تحترم الديمقراطية. ربما لم تحم النظم الدكتاتورية المسيحيين حباً فيهم أو بدافع الحرص عليهم. ربما قاموا بذلك في إطار سعيهم للمحافظة على السلطة. وربما قاموا بذلك، من دون أن يقصدوا، بمواجهتهم القوية لتيارات الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية. ولكن ما يبقى في النهاية هو أن معاناة المسيحيين، طائفياً، في ظل حكم النظم الدكتاتورية كانت في أدنى حالاتها. هناك من يرددون أنه مهما كانت سيئات الأنظمة الحالية فإنها لا تقارن بسيئات الأنظمة الدكتاتورية. ولكن من يرددون هذه الادعاءات لا يدركون حجم الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون اليوم في أوطانهم. وقد استمعت شخصياً للكثيرين من مسيحيي مصر ممن يترحمون على أيام جمال عبد الناصر التي يصفونها بالذهبية، بل ويترحمون أيضاً على أيام حسني مبارك رغم قسوتها عليهم، وعرفت الكثيرين من مسيحيي العراق ممن يتحسرون على أيام صدام حسين التي يقولون أنها لن تتكرر، وأشعر بأنين مسيحيي سوريا، حديثي العهد بالاضطهاد، وأدرك أن الكثيرين منهم يتمنون لو أن الأيام عادت بهم قليلاً إلى الوراء.

إن تحسر مسيحيي مصر والعراق وسوريا على أيام الدكتاتورية لا يجب أن يمر علينا مرور الكرام لأنه شهادة فشل للأنظمة الحالية التي انتجتها مرحلة كان يجب لها أن تتسم بالديمقراطية واحترام الحريات العامة. الدكتاتورية كانت حتى وقت قريب هي الأسوأ في ما عرفت الإنسانية بالنسبة لحقوق الشعوب، ولكنها لم تعد كذلك بعد ظهور الإسلاميين. الإسلاميون اليوم هم الأسوأ عن جدارة واستحقاق. فعلى الرغم كل مساويء الدكتاتورية إلا أنها كانت أرحم، عن قصد أو من دون قصد، بالمسيحيين من التطرف والإرهاب. لقد انخفضت نسبة المسيحيين في الشرق الأوسط وبلغت أدنى مستوياتها على الإطلاق بسبب الاضطهاد الذي يعانون منه. مئات الألاف من مسيحيي مصر والعراق وسوريا تركوا أوطانهم في الفترة الأخيرة. ومن المؤسف القول بأنه من غير المتوقع أن تتحسن أوضاع المسيحيين في أي من البلدان الثلاثة لأن الإسلاميين المتطرفين استولوا على الحكم في مصر تمكنوا من تحويل العراق إلى وكر للإرهاب وها هم يفترسون سوريا ويعيدونها إلى عصور التخلف والجهل. إن تحسر مسيحيي الشرق الأوسط على أيام الدكتاتورية لهو أمر يجب أن يخجل منه كل إنسان متحضر، وهو دعوة لكل من يحلم بالديمقراطية الحقيقية والحرية للعمل على تغيير الأوضاع حتى تحترم تعود للمسيحيين حقوقهم الإنساية.

[email protected]