المثقف،تعيينا،هو المشارك في المعترك العام،انطلاقا من كفاياته المعرفية ومن درايته بمسارات التاريخ وآليات الاجتماع، في سياقات تاريخية وثقافية ممتدة أو متقطعة.
يطل المثقف على المشهد الاجتماعي والسياسي، من شرفته المعرفية أو الأخلاقية،ويقتحم العتبات،للاحتكاك بالتاريخ الحي، وبتفاعل الإرادات وتشابك الخطوط والخيوط.

لا يصير المثقف جديرا بصفته،إلا كلما ولج الساحة العامة،واستند إلى كفاياته المعرفية والى سلطته الأخلاقية،في ترجيح رأي على رأي، أو في الذب عن قضية من القضايا، أو في استثارة إشكاليات مسكوت عنها في المجال الاجتماعي أو في الحقل الثقافي، رغم خطورتها وثقل وقعها، على الفاعلين الاجتماعيين والثقافيين.

وهكذا، ينتقل المثقف من موقع الموضوعية الفكرية،القائمة،على التحقق المصدري والحذر المنهجي والصرامة التدليلية والاستدلالية،إلى موقع التفاعلات الذاتية بله الذاتانية،والى التفاعل، السلبي أو الايجابي، مع سياقات سياسية أو اجتماعية أو ثقافية،متمنعة على الفهم أو على التغيير أحيانا(حقيقة النيو-ليبرالية والعولمة الاقتصادية والهشاشة المعولمة وأزمات الديمقراطية النفاثة مثلا... ).

والحقيقة، أن الوضع البيني للمثقف،يوقعه في التباسات وترجيحات،ذات انعكاس سلبي غالبا، على مساره المعرفي أو على مسلماته الأخلاقية، وعلى مساهمته العملية في صياغة الرأي العام أو الضمير الجمعي أو في إعادة تنشيط المخيال السياسي. مما يقوده، في الغالب، أما إلى الاحتماء بالأيديولوجيات ( احتماء سارتر بالماركسية بعد الفاصل الوجودي-الفينومينولوجي في مساره )،أو التحول إلى فاعل تاريخي مماثل للفاعلين التاريخيين الآخرين دون أدنى تعديل في الصفة،أو معلق تقني على هامش الأحداث.

تستند سلطة المثقف على:
-سلطته المعرفية في مجال تخصصه (العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية أو الإنتاج الأدبي أو الفني.... الخ)،
-سلطته الأخلاقية بحكم تضافر المعرفة بالأخلاق مبدئيا في غراره،
-سلطته العقلية كمحتكم إلى النظر المتروي والى الاستدلالات العقلية المنهجية القوية افتراضا.

يتدخل المثقف،في المشهد السياسي ndash;الثقافي، الوطني أو الإقليمي أو الدولي،من موقع المحتاز على رأسمال ثقافي وازن،وعلى قدرات تحليلية واستشرافية أعلى من قدرات الفاعلين الكلاسيكيين، الغارقين عموما، في التفاصيل التقانية، بمعزل عن المشمولات التاريخية والثقافية للفعل السياسي و للسلوك الاجتماعي.

لكن، هل يتمكن المثقف،إذ يلج المشهد الثقافي أو السياسي العمومي،من الحفاظ أو تنمية قدراته المعرفية؟ألا تفصح الممارسة الثقافية الممتدة، لبعض المثقفين، عن ضمور فعاليتهم الأصلية،وتضخم فعاليتهم الفرعية؟ على أي أساس تنهض،مثقفية،فاقدة للسند المعرفي أو المدد الايطيقي؟

كيف يوفق المثقفون، بين كفاياتهم المعرفية ndash;الأخلاقية،وفعاليتهم السياسية،داخل مشاهد ثقافية معقدة، ومتسارعة الإيقاع ومتقلبة الأحوال،ولا سيما في زمان العولمة النفاثة؟
كيف يحقق المثقف التوازن،بين موضوعية التفكير، وذاتية بله ذاتانية، السلوك والترجيح السياسي، في الوضعيات الاجتماعية أو السياسية، المضطربة أو الإشكالية.؟كيف يمكن البرهنة،على جدوى،مطارحات المثقفين،في الوضعيات الحرجة،أو في السياقات المحتدمة أو في وضعيات الاشتباك المفعمة بالغموض المعمم والمواجهة الإيديولوجية الملتبسة.؟

ليس الاستغراق في التاريخ الحي أو في مشاغل الساحة العمومية أو الوضع الدولي،بالحافظ،دوما لألق المثقف؛إذ يكتشف المثقف،في ممارسته التاريخية،كثافة الذاتيات،وتخانة اللامعقول وغموض آليات المخيال السياسي(ريجيس دوبريه وكاستورياديس وكلود لوفور.....الخ).وتكفي العودة إلى تأملات سارتر،في في مساره quot;المثقفيquot; الصعب،لإدراك صعوبة إقامة التوازن الراجح،تعيينا، بين النظر والعمل،بين هوى المعرفة وهوى الترجيحات والاهتيامات الجماعية(الماركسية المسفيتة مثلا).

.من الضروري،للحفاظ، على التوازن بين موضوعية المفكر أو الباحث( سارتر وراسل وفوكو وبورديو وباديو وزيزيك....الخ) أو على استبصار الأديب أو الفنان( فولتيرأو غوته أو هيجو أو زولا أو وتولستوي وألبير كامي................الخ)من جهة، وذاتية الفعل السياسي أو التناظر الفكري ذي النتائج العمومية، ( الموقف من العولمة ومن ما بعد الحداثة والديمقراطية المديائية.... )، الاشتغال على جبهتين، جبهة الفكر أو الأدب أو الفن وجبهة الممارسة الميدانية،المدفوعة ببث القيم التنويرية والاستدلال العقلي على رجحان اختيار اجتماعي أو ثقافي أو تربوي، بالقياس إلى اختيار أقل متانة أو أقل نجاعة،فكريا وسياسيا.
فالمؤكد،إذن أن المثقف،لا يصير مثقفا، إلا بقدر استمراره، في استمداد الطاقة التحليلية والتركيبية من مجال اشتغاله الفكري،ومن قدرته على اغناء كفاياته المنهجية والنظرية،بالمعطيات الميدانية، والخبرات المجالية،والكفايات المحصلة من جراء التفاعل والاشتباك، الحاد والمتوتر غالبا والتراجيدي أحيانا، مع متاهات التاريخ الحي، أو خفايا القرار السياسي أو انغلاقات المتخيل الجمعي أو لا عقلانية العقل الاقتصادي.
ألا يحكم المثقف المحترف،على نفسه،بضعف الاستمداد والإمداد؟

ألا ينطوي وضع المثقف المحترف على مفارقة غير قابلة للرفع، إلا بالتمييز بين الثابت والمتغير في الممارسة الفكرية أو الثقافية،في فضاء ثقافي محلي أو دولي؟
فكلما استغرق المثقف،في المجال العمومي، انحصر في مجال الذاتيات والترجيحات والتقديرات الظرفية وفقد التواصل مع خلفيته النظرية وحقله الفكري؛ وكلما وثق،فعله الثقافي،بخلفيته، كان حضوره الميداني،أقوى، ورأسماله الثقافي، أرجح في سياق الحجاج أو الاحتجاجات أو المرافعات الفكرية أو السياسية(حالة فولتير أو راسل أو بورديو).

ثمة فارق بين المثقف والأخصائي الاقتصادي أو السياسي أو الإعلامي ؛فالمثقف،يستمد سلطته من معرفته النظرية،في الإنسانيات أو في العلميات، أو من منجزه الأدبي أو الفني،أما الأخصائي،فيستمد شرعيته حصرا من خبرته التقنية بالمجال وآليات اشتغاله، ونوعية العلائق السائدة فيه.أضف إلى ذلك،أن المثقف لا يعتني فقط،بالتفاعلات الحينية أو الظرفية، أو بالسياقات الحاضرة للحدث،بل كثيرا، ما يضع الحدث ضمن تاريخيات بعيدة،من باب التبين والتبيين، وإدراك الاستمراريات والقطائع.لا يكتفي المثقف باللحظي، أو بالتواريخ المعاينة مثل التقني أو الأخصائي،بل يقرأ الظرفي ضمن مسار طويل من التواريخ المتشابكة، وفي سياق استشرافي،يلتمس اكتمال الفهم وشمولية التأويل.المثقف،منشغل بالتاريخ،للتزود بخلفية سياقية، ضرورة للفهم،وبالمستقبل أي بالتاريخ الآتي، لإكمال معنى الحاضر. فالحاضر لا يكتمل،إلا باستئناف تحققاته المستقبلية. وبما أن الاستشراف، دراية ونظر، فإن المثقف، ملزم بإرهاف أدواته، والتعامل الحذر، مع القضايا والمسائل والإشكاليات، بكثير من الروية.

وحين يندغم المثقف بالأخصائي أو بالسياسي الميداني،فإنه يخف أو يقل استمداده، من التاريخ بما هو حصيلة خبرات بشرية،ضرورية لفهم العقل أو المخيال السياسيين،وبما هو مجرى، لا حب أو لولبي، موصول الحلقات أو متقطع السيرورات.لا تجدي الميكرو-تاريخيات، من منظور الحداثة الكلاسيكية، في تسديد وظيفة المثقف الحديث.فكيف صار المثقف،قرين الآنات، يرتق المعاني آنا بعد آن،ويقتطع روافد صغرى من المجرى التاريخي الكبير؟

وكما يتمايز المثقف عن الأخصائي في العلوم السياسية أو العلاقات الدولية أو الاقتصاد السياسي، فإنه يختلف عن الإيديولوجي،المداور باستمرار لحزمة أفكار ثابتة،اهتيامية أو استلابية،واهية الصلة بحيوية الواقع وحركية التاريخ وطبيعة النقلات والتحولات الاجتماعية.

مما لا شك فيه،إذن، أن الوضع البيني للمثقف،يفرض عليه تحسسا حذرا للنظريات وللعمليات على السواء،وتثبيتا لسلطته الرمزية من خلال تقوية ارتباطاته العملية بالمجرى الآني للسيرورة،وبالتاريخ المتحول في لحظات التفكك وإعادة البناء (تفكيك المنظومة الاشتراكية وتكريس المنظومة الليبرالية ndash;الرأسمالية بشرق أوروبا مثلا )،وبحركية الوعي(الوعي بالقضايا البيئية والتعددية الثقافية وإشكاليات الهجرة مثلا )،إقليميا ودوليا.
المثقف مدفوع دفعا، لمتاخمة الحركيات التالية :
-حركية التاريخ،
-حركية المجتمع،
-حركية المعرفة،
-حركية الوعي.
وحين يتراخى التفاعل مع هذه الحركيات الأربع،يصير المثقف،مخلصا لمنهجه الذاتي في التفاعل مع حركيات الواقع، أكثر ما يحقق التوازن المعرفي، بين وضوح واستقرار النظريات،واحتدام الحركيات،واتساع حقل امتدادها، خاصة بعد الثورة المعلوماتية.
يمارس المثقف، مهمته استثناء أو كلما اقتضى السياق تدخله،ويستظل بظلال النظري،كلما ارتأى أن تدخله،غير ضروري أو قليل المردودية،الثقافية أو الاجتماعية.
أليس المثقف،حليف القضايا الكبرى،يغنيها وتغنيه؟
ألا يستدعي الوضع الاستثنائي،للمثقف،معانقة خاصة لتاريخ منفتح على الأحسن وعلى السوء افتراضا؟