تختلط المشاعر وهي تشاهد واحداً من أبطال فلسطين القلائل في زمن التقهقر وتناسي القضية المركزية للعرب والمسلمين وشرفاء العالم (فلسطين) وهو يصارع بيديه الفارغتين قضبان السجن الباردة، وهو يواجه بأمعائه الخاوية التي يعد أحد أبرز أبطالها ومطلقيها شهوات ونزوات زل أمامها ساسة ومفاوضون على دماء شعبه وأرضه.
سلطات الاحتلال الإسرائيلي أفرجت عن الأسير المقدسي سامر العيساوي، صاحب واحدة من أطول فترات الإضراب عن الطعام في التاريخ. العيساوي الذي اعتقل بعد الإفراج عنه عام 2011 في صفقة تبادل للأسرى بعد اعتقال دام عشر سنوات، برر الاحتلال اعتقاله بمحاولته دخول منطقة الرام، وعدم التزامه بشروط الصفقة.
في الأول من أغسطس/آب 2012، أعلن العيساوي إضرابه المفتوح عن الطعام احتجاجا على إعادة اعتقاله تعسفيا ودون أي مبرر. وخلال إضرابه الذي استمر تسعة أشهر، ويعتبر فترة من أطول فترات الإضراب عن الطعام، عقدت عدة جلسات بالمحكمة العسكرية في quot;عوفرquot; ومحكمة صلح الاحتلال بالقدس انتهت بانتصاره بعد أن كانت سلطات الاحتلال تطالب بسجنه لمدة توازي ما تبقى من حكمه الأصلي (أي عشرين عاما) ليكمل حكمه الأصلي بالسجن ثلاثين عاما.
وبعد معركة طويلة وقاسية الظروف خاضها الأسير العيساوي بأمعائه الخاوية، إضافة إلى معركة قانونية خاضها المحامي جواد بولس مدير الوحدة القانونية في نادي الأسير، ومعركة ثالثة خاضتها عائلة الأسير على كافة المستويات المؤسساتية والحقوقية والإعلامية، انتصر سامر في 23 أبريل/نيسان الماضي، وكسر قانونا عسكريا كان قد فرض على الأسرى المحررين يقضي باعتقالهم لأي مخالفة يقومون بها حتى وإن كانت مخالفة سير.
لست أقلل من حجم الإنجاز الذي حققه العيساوي لقضية الأسرى وفلسطين بوجه عام، فهو بطل ويستحق الإشادة والتكريم والاحتفاء، كما يستحق إخوانه في سجون الاحتلال المؤازرة والوقوف إلى جانبهم في ظل تشاغل العالم عن قضيتهم وحقوقهم.
لكن المقزز في الأمر هو ما ما رسته وسائل إعلام فلسطينية وعربية من محاولة امتهان واستغلال لإطلاق سراحه وتوظيف ذلك ضمن مشاريع معينة وخدمة لأغراض معينة في محاولة لتناسي باقي واجباتها ضمن بقية مكونات الشعب الفلسطيني وتفاصيل ملفاته المعقدة.
أحد المتهكمين والناشطين الفلسطينيين علق على نبأ إطلاق سراح العيساوي بمباركته وتهنئة العيساوي بإنجازه الذي يشهد له، لكنه ذكره ومن ورائه ذكر السلطة الفلسطينية أن في مخيمات اللجوء الفلسطيني في سوريا آلاف الفلسطينيين المحاصرين منذ عدة شهور يمنع عنهم إدخال الماء والغذاء والطحين والدواء وحليب الأطفال، حتى مات يومياً منهم العشرات بسبب حصار أمعائهم الخاوية.
فحتى الآن، ورغم كل الوساطات والمحاولات، ما يزال الجيش السوري والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة) تفرضان حصاراً اقتصادياً خانقاً على مداخل ومخارج مخيم اليرموك وغيره من المخيمات الفلسطينية التي يوجد بها عناصر للمعارضة السورية، ويمنعان بموجبه إدخال المواد الغذائية والأدوية ومواد التدفئة والطحين، ما أدى إلى انعدام مقومات الحياة في المخيمات وسببت بموت عدد من أبنائه نتيجة سوء التغذية ونقص الأدوية.
آخر إحصاءات وكالة الأنروا حول فلسطينيي سوريا المهجرين (داخل وخارج سوريا) كشفت أن وجود نحو (270) ألف مهجر داخل سوريا (أكثر من 200 ألف في دمشق، و6 آلاف في حلب، 4500 في اللاذقية، 3050 في حماه، 6450 في حمص، 13100 في درعا. أما خارج سوريا، فهناك(10687) مهجر في الأردن (98% في اربد والزرقاء وعمان، 190 مهجر في سايبر سيتي، 1835 طالب وطالبة في مدارس الاونروا).
كما تم تسجيل نحو 51 ألف مهجر في لبنان (32% صيدا، 19% صور، 17% بيروت، 16% في كل من طرابلس والبقاع. 52% من المهجرين في المخيمات. 7220 طالب وطالبة في مدارس الاونروا ونحو ستة آلاف مهجر في مصر، ونحو1100 مهجر في ليبيا، ونحو ألف مهجر في غزة، فضلاً عن أعداد أخرى في تركيا، ماليزيا، تايلند واندونيسيا.
هي أرقام قد تكون صادمة للوهلة الأولى، لكنها بلغت هذا الارتفاع نتيجة إهمال رسمي متعمد من قبل منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ومحاولات اللعب بدماء هولاء اللاجئين ومفاوضة النظام السوري والقيادة العامة عليهم، بل ووصل الأمر بالعديد من ممثلي منظمة التحرير بالقدوم إلى دمشق وعدم زيارة أي مكان أو مخيم أو مأوى للجوء او النزوح والاكتفاء بالزيارات الرسمية والدبلوماسية.
أيها البطل الهمام: بوركت وبوركت جهودك ومعركتك ضد الجلاد الغاصب والمعتدي الذي ما كان ليفهم لغة التفاوض التي أدمنها بعض ممثلي الشعب الفلسطيني، بحجة الحصول على قطعة أرض ولو على سطح القمر لإعلان الدولة الفلسطينية عليها ولو كان على حساب إضاعة بقية الأرض وتشريد الشعب والإنسان.
لم يعد سامر العيساوي، بحاجة إلى إضراب جديد عن الطعام داخل سجون الاحتلال الاسرائيلي. انتصر السجين على السجان، بعدما أجبرت سلطات الاحتلال على الإفراج عنه الاثنين ليسجَّل بذلك انتصار جديد للعيساوي وأقرانه الأسرى الفلسطينيين في معركة الأمعاء الخاوية.
ويبقى أن نهمس بطرفة راجت بعد الإعلان عن إطلاق سراح العيساوي في مخيم اليرموك بدمشق، وهي أن لاجئو مخيم اليرموك باركوا للعيساوي إطلاق سراحه، وتندروا قائلين: أحمد الله أيها البطل أنك كنت سجيناً لدى سجون الاحتلال، فلو كنت حبيساً في سجون النظام السوري أو القيادة العامة وبقية الفصائل المؤيدة للنظام السوري، لما كتب لك من الحياة.. إلا كما كتب لعشرات الشهداء الذين يتوفون يوميا بسبب سوء التغذية والإهمال وسوء العناية الطبية، وبيد بعض من أبناء جلدتك، كما أن بعض أبناء جلدتك تاجروا بإنجازك ونجاحك في قهر سجانك!!

هشام منور... كاتب وباحث