كان تيار quot;المستقبلquot; حتى الأمس القريب الحزب الأكثر جماهيرية على مستوى لبنان وتحديداً بين عامي 2005 و2007، بيد أن هذه الشعبية الجارفة والتي شكلت الطائفة quot;السنّيةquot; رافعتها الأساسية، سرعان ما انحسرت وتراجعت بفعل الأخطاء والضربات السياسية المتلاحقة التي تلقاها هذا التيار.

وعلى الرغم من حداثة عهده السياسي، إلا أن تيار quot;المستقبلquot; مرّ بتجارب وامتحانات عديدة وتحديداً خلال السنوات التسع الأخيرة، أي منذ اغتيال مؤسسه رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الراحل رفيق الحريري، مروراً بأحداث ما بات يعرف بالسابع من أيار - مايو 2008 واتفاق الدوحة، وصولاً إلى إقصاء نجل ووريث الحريري السياسي سعد عن السلطة مطلع العام 2011، واضطراره في وقت لاحق لمغادرة البلاد قسراً تحت وطأة التهديدات الأمنية.

في المرحلة الأولى (اغتيال الحريري الأب) لعب تيار المستقبل الدور الأبرز على الساحة السياسية اللبنانية حتى بات يتحكم بكافة التفاصيل الدقيقة من تشكيل وتأليف الحكومات وتعيين قادة أمنيين، إلى جانب صياغة أو فرض تفاهمات سياسية، فضلاً عن تسمية كافة النواب والوزراء السنة والمديرين العامين، ناهيك عن دوره الملموس في العلاقات الخارجية بين بيروت وعواصم القرار الإقليمية والدولية.

المرحلة الثانية (أحداث 7 أيار 2008) بصرف النظر عن السبب المباشر (شبكة اتصالات حزب الله) أو غير المباشر لهذه الأحداث، فإن تيار المستقبل وجد نفسه في quot;معمعةquot; أفقدته الكثير من بريقه وتركته يعيش فترة من الترنح المحكوم بضابية الرؤية، خصوصاً بعدما أفضى حسم quot;حزب اللهquot; العسكري حينذاك إلى فرض شروط سياسية (خلال مؤتمر الدوحة) مكنته من الحصول على الثلث المعطل في الحكومة وغيره من الامتيازات والمكتسبات الأخرى.

المرحلة الثالثة (خروج الحريري الابن من السلطة)، ربما كانت هذه المرحلة الأخطر في تاريخ التيار كونها عرّته بشكل كامل، فبدا quot;المستقبلquot; متخبطاً لا مرجعية له ولا آلية عمل واضحة في اتخاذ القرارات والتعاطي مع الملفات والقضايا، وهو ما أظهر أن هذا الحزب لم يُبن بشكل مؤسساتي وعلى أسس صلبة، وإنما كان كما هو حال مختلف الأحزاب والتيارات اللبنانية وحتى العربية في كثير من الأحيان (باستثناء العقائدية منها - جماعة الإخوان المسلمين وحزب الله) يرتبط ارتباطاً عضوياً بشخص زعيمه.

أما عن أسباب التراجع في الدور والجماهيرية فهي كثيرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- افتقاد التيار وفق ما يرى كثيرون quot;كاريزماquot; القائد، إذ لم يكن الحريري الابن ذاك الشاب الملهم الذي يثير حماسة أتباعه نتيجة عدم خبرته السياسية، وبالتالي عدم تمكنه من التعاطي بالشكل المطلوب مع الأوضاع السياسية، ناهيك عن عدم قدرته على الفصل بين القضايا السياسية ودم والده (وإن كانت جريمة الاغتيال سياسية بامتياز).

- عدم قيام الحريري بالعمل على إنشاء منظومة حزبية متكاملة رغم توافر كافة العناصر البشرية والمادية والمؤسساتية والخدماتية والإعلامية، وذلك يعود ربما لانشغاله بملفات يعتبرها أكثر أهمية لاسيما المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة والده.

- غياب الرؤية، نقطة أساسية ساهمت بضعف التيار الذي يبدو في كثير من الأحيان مترددا وحائرا وكأنه لا يعرف ماذا يريد، أو ربما لا يعرف كيف يعبر ويدافع عن أفكاره وأدبياته على الوجه المطلوب، في الوقت الذي يتطلب فيه العمل السياسي معايير وضوابط ومنهجية واضحة بالإضافة إلى البراغماتية في التعاطي.

- ضعف القيادات (الصف الأول من نواب ووزراء والصف الثاني أعضاء المكتب السياسي وكذلك الصف الثالث من منسقي المهن والقطاعات والمناطق) لعب دوراً كبيراً في تشرذم القاعدة، التي بحثت دون جدوى تارة عن خطيب متمكن وبارع، وطوراً عن مفكر يعبر عن هواجسها وتطلعاتها، مع الإشارة أن هذا التيار ساعد أكثر من 30 ألف طالب على تلقي علومهم في أهم جامعات العالم، ما يعني أن quot;المستقبلquot; يملك الكفاءات والكوادر ولكنه لا يعرف كيف يوظفها ويعطيها الفرصة اللازمة للخروج إلى الضوء.

- آليات تسمية نواب وزراء وأعضاء المكتب السياسي للتيار، تبدو غير واضحة لا بل هي أقرب إلى التعيين من الانتخاب، ما يخلق فجوة بين نبض الشارع ودوائر القرار السياسي التي تحكمها المصالح.

- التخبط التنظيمي، فالتيار يعاني خللاً تنظيمياً واضحاً بصرف النظر عن المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات واللجان والهيئات والبيانات التي تخرج عنها، ولا تعدو كونها مجرد قصاصات ورق.

- فشل quot;المستقبلquot; في تسخير مؤسساته الخيرية والاجتماعية والإعلامية وحتى التجارية لخدمة أهدافه ومشروعه السياسي، أو بمعنى أدق يكاد يكون الحزب الوحيد في لبنان الذي تجد في مؤسساته من يخالفه توجهاته السياسية، في حين أن التيارات والحركات الأخرى توظف مؤسساتها لخدمة أغراضها الحزبية البحتة ولا مكان فيها لغير الحزبيين والمناصرين.

- القضايا والنقاط آنفة الذكر ورغم أهميتها توضع في كفة، ولقاء الحريري مع الرئيس السوري بشار الأسد (قاتل والده وفق الاتهامات السياسية على الأقل) في كفة أخرى، ففي حين لم يكن الأسد يريد هذا اللقاء سوى لالتقاط الصور التذكارية مع الحريري أمام عدسات الكاميرا في استنساخ لتجربة والده حافظ الأسد مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، رأت قاعدة quot;المستقبلquot; أن التسوية السياسية دائما تكون أكبر من الشعارات، كما اعتبرت أن هذا اللقاء يناقض تماماً الفكرة الجوهرية التي قام عليه التيار (بعد 14 شباط ndash; فبراير عام 2005) بالخصومة والعداء المطلق لنظام دمشق.

خلاصة القول، يبدو أن تيار الحريري يعيش شيخوخة مبكرة مردها إلى الاعتباطية والتسرع في اتخاذ القرارات، واتساع الهوة أكثر فأكثر بين القاعدة والقيادة، لذا هو بأمس الحاجة إلى إجراء مراجعة واستخلاص العبر حتى يتمكن من استعادة زمام المبادرة في شارعه وطائفته قبل فوات الأوان.

صحافي بجريدة الراي الكويتية