أرسل إلي صديق كردي يبث ألمه من أفعال داعش بحق الأكراد وغيرهم من الأقليات غير المسلمة مثل المسيحيين والإيزيديين، ويقول إن أفعالهم يندى لها الجبين فهم يذبحون ويقتلون ويهجرون ويهدمون المراقد الدينية ويبيعون النساء كعبيد، والخطير أنهم يمارسون كل هذه الأفعال تحت شعار الإسلام وبتأييد حسبما يزعمون من نصوص القرآن والحديث.. قال لي صديقي الكردي: ألم يحن الوقت لإعادة النظر في تفسير إنساني وجريء لبعض النصوص والأحاديث التي يفهم منها التقهقر إلى القرون الوسطى من التاريخ عند تطبيقها مثل:" واقتلوهم حيث ثقفتموهم"،& وآيات ملك اليمين وآية إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون!!
قلت له يا صديقي إن حديثك مؤلم جداً وإن ما يضاعف الألم أن تنسب كل هذه الأفعال إلى دين يحصر رسالته في هدف وحيد هو الرحمة والعدل: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"، "ليقوم الناس بالقسط"، "ألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله"، أما ما نراه اليوم فهو نسخة مشوهة هي فتنة للعالمين ليس فيها سوى النقمة والحرب والدماء واستعباد الشعوب، إن القرآن يؤكد بشكل بين لا لبس فيه طبيعة رسالته الروحية الرحمانية: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين"، فالدين ليس مشروع توسع وهيمنة بل هو رسالة هداية ورحمة وشفاء لما في الصدور، لكن ماذا تفعل هذه النصوص في ثقافة تحتفي بقول هارون الرشيد مخاطباً السحابة أمطري حيث شئت فإن خراجك راجع إلي نهاية العام أكثر من احتفائها بقول الله: "لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً"!!
تمارس الثقافات قراءةً انتقائيةً للنصوص، فالعلة في الثقافة لا في النص، فحين تقرأ نفس مشبعة بالرحمة والسلام الداخلي القرآن فإنها ستخشع أمام آيات الرحمة والعدل والسلام، أما حين تقرأ نفس مريضة بالعنف ذات القرآن فلن يستوقفها من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آيةً سوى آيات من قبيل: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" دون أن تراعي خصوصية السياق الذي جاءت فيه هذه الآيات.
سألت ذات مرة البريطانية إيفون ريدلي: ما الذي دفعك إلى اعتناق الإسلام؟ قالت: لقد فوجئت من قدر العدالة التي تحتويها آيات هذا الكتاب والحقوق التي يمنحها للمرأة! قلت في نفسي: لكن قوماً آخرين قرأوا ذات القرآن آلاف المرات في حياتهم ولم يجدوا فيه سوى: "واضربوهن"!
إن القرآن ذاته يؤكد أن النص وحده لا يكفي وأنه لا بد من قابلية نفسية وثقافية سابقة لتلقي هدايته: "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً"، "ولا يزيد الظالمين إلا خساراً"، "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً"..
إن نفس القرآن الذي يبشر بمبادئ العدل والرحمة وتحرير الإنسانية من الإصر والأغلال والمساواة بين المستضعفين والمستكبرين حين تتلقفه ثقافة مشبعة بأمراض العنف والانغلاق والاستبداد لن ينتج إلا إسلاماً مشوهاً يمارس الظلم والإفساد في الأرض وهي ذات القضية التي جاء القرآن ليحاربها: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون"..&&&
هناك مستويان في الخطاب القرآني: المستوى الروحي والمستوى الزماني، أما الأول فهو يتعلق بالمعاني الخالدة التي لا تتأثر بتبدل ظروف الثقافة والتاريخ مثل معاني الإيمان وعمل الصالحات والإحسان والبر والتقوى والعدل والرحمة والصلاة والزكاة، فهذه المعاني التي تمثل الطابع الغالب في القرآن معان خالدة مهما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال، ولا يمكن أن يشعر الناس بحرج حتى بعد عشرة آلاف سنة من تنزل القرآن في الامتثال إلى هذه المعاني، إذ إن حاجة النفس البشرية إلى العدل والسكينة الداخلية والطمأنينة الروحية في عصر الكهوف هي ذات الحاجة في القرن الواحد والعشرين، وحقيقة العلو في الأرض التي دفعت ابن آدم إلى قتل أخيه في فجر التاريخ هي ذات الحقيقة النفسية التي دفعت أمريكا في القرن العشرين إلى إلقاء القنبلة الذرية على ناجازاكي وهيروشيما، وما اختلف هو فقط أن ابن آدم الأول قتل أخاه بفك حمار بينما مارست حضارة القرن العشرين ذات الجريمة بالقنبلة الذرية..
أما المستوى الزماني في القرآن فمرده إلى أن نصوص القرآن تنزلت في سياق تاريخي وظروف اجتماعية محددة، ولأن القرآن ذو طبيعة عملية كان لا بد من تسليط الضوء على طبيعة الواقع الذي تنزل فيه ولم يكن من المنطقي أن تظل النصوص محلقةً في المعاني المطلقة دون ملامسة للواقع الإنساني الذي تريد معالجته، وهذا المستوى الزماني يمثل حالةً تفاعليةً بين المعاني الروحية المطلقة وبين ظرفية الزمان والمكان الذي مورست فيه هذه المعاني، ونجد من أمثلته في القرآن معالجة القرآن لمواقف خاصة بزمن النبي مثل تفاصيل الغزوات وآداب العلاقة بين النبي والمؤمنين، وأحكام زوجات النبي، وحديثه عن رحلة قريش في الشتاء والصيف وعن أبي لهب، وعن انتصار الدولة الرومانية، وحديثه عن رباط الخيل، وعن ركوب الأنعام، وعن ملك اليمين الذي كان سائداً في الأنظمة الاجتماعية العالمية في ذلك الزمان، لكن هذه المواضيع التي يبدو أنها تحمل خصوصيةً زمانيةً تتضمن في ثناياها أيضاً قيمةً مطلقةً يمكن تنزيلها على أزمنة وظروف مختلفة بعد تحريرها من خصوصية زمان تنزلها واكتشاف العمق النفسي والروحي داخلها، فمثلاً الحديث عن رباط الخيل لا يفهم منه عاقل تطبيقاً حرفياً في هذا الزمان، إنما يفهم منه الإعداد في حالته القصوى بما يراعي اختلاف الوسائل، وتفاصيل غزوات النبي لا يفهم منها استنساخ حرفي، بل تفهم منها المعاني المطلقة مثل الشجاعة في الدفاع عن المبادئ وعدم النكوص حين تفرض المواجهة، وحقيقة التدافع الإنساني، وكذلك الآيات التي تتناول أحكام ملك اليمين لا يفهم منها أن القرآن يدعو إلى إحياء الرقيق من جديد، بل يفهم منها أن ندفع دائماً باتجاه العدل حسب إمكانيات ظروف المرحلة التاريخية التي نعيشها، فحين كان البشر قد تواضعوا فيما بينهم على هذا النظام لم يكن بوسع القرآن ذو الطبيعة الواقعية التدرجية أن يلغي هذا النظام من حياة البشر جملةً واحدةً، فوضع أحكاماً تنظم هذا الواقع بما يحقق العدل، فإذا جاءت مرحلة تاريخية متقدمة وتجاوز البشر ذلك الواقع كان لا بد من مقاربة جديدة تبحث عما هو أكثر عدلاً وإحساناً..
إن علينا دائماً أن نرجع إلى المقاصد الكلية في القرآن فهي التي تشكل الإطار العام للدين و تضمن ألا ينحرف فهمنا لأحكامه الجزئية التفصيلية التي عالجت ظروفاً تاريخيةً محددةً.. من هذه الكليات القرآنية قوله تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"، وقوله: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، وقوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها".. وهذه الآيات تعني ارتقاءً مستمراً في تزكية الإنسان، فإذا كان هناك خياران أحدهما قويم والآخر أقوم فإن علينا أن ندفع باتجاه التي هي أقوم، فإن كان القصاص حقاً فإن العفو خير منه، وإن كان رد الإساءة بالإساءة مكفولاً فإن ردها بالإحسان أحب إلى الله الذي يأمر بالعدل والإحسان، وهكذا فإن القرآن يفتح أمامنا دائماً أبواب الترقي نحو مزيد من الخير والعدل والرحمة والإحسان..
مراعاة وجود مستوىً زماني في القرآن يقتضي منا تجديد مقاربة معانيه مع كل تطور يشهده الواقع الإنساني، فالقرآن لا يسقط تعاليمه على فراغ، وهو لا ينشئ الواقع الإنساني ابتداءً بل يفكك واقعاً موجوداً ويحدد مواطن القوة فيه فيعززها، ومواطن الظلم والفساد فيعالجها ثم يدفع باتجاه التي هي أحسن والتي هي أقوم، وحين نقرأ في القرآن مثلاً الآية التي تتحدث عن إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون فإنها آية تعالج حالةً حربيةً كان المسلمون يعيشونها زمن تنزل القرآن وتحثهم على كسر شوكة المحاربين، ولا يجوز إخراج هذه الآية عن سياقها، وحين تزول الظروف التي اقتضت حكم هذه الآية فإننا نرجع للأصل في العلاقات الإنسانية وهي علاقات قائمة على العدل والإحسان والبر والإقساط حسبما يقول القرآن ذاته:
"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"..
والله الهادي إلى سواء السبيل..

[email protected]
&