بعد التغيير الذي حصل في العراق قبل عقد من الزمن عقب قيام الولايات المتحدة الأميريكية ndash; إنطلاقاً من مصالحها ndash; بإسقاط نظام صدام الديكتاتوري وتبنيها لنظرية الفوضى الخلاقة (المدمرة)، دخلت الأحزاب السياسية العراقية وقياداتها الى البلد وبرزت أحزاب وقيادات أخرى جديدة مع دخول أول دبابة أميريكية إلى بغداد... لقد ساهمت نظرية (الفوضى الخلاقة) في تحول هذه الأحزاب خلال فترة وجيزة إلى إقطاعيات سياسية حاكمة على غرار الإقطاعيات الإجتماعية التي كانت تحكم المجتمعات السابقة ومازالت تحكم في بعض البلدان ومنها بلدنا حيث انتعاش ثقافة الإنتماء للقبيلة والعشيرة والولاء لها ndash; اقليم كردستان مثالاً حيث تبنت الأحزاب الكردية نهج ترشيح الوجوه العشائرية للإنتخابات في الإقليم وكذلك للإنتخابات النيابية القادمة في العراق- هذه الإقطاعيات السياسية بشتى إيديولوجياتها ومشاربها (دينية،قومية،مذهبية ) تمرح وتسرح على مسرح الأحداث متغازلة بعواطف الأهالي الذين ما زالوا مخلصين ويحملون في دواخلهم بعض الثقة بالشعارات الدينية والقومية والطائفية.

هذه الإقطاعيات السياسية في العراق لديها معادلات سياسية مستساغة من قبل المتتبع والمهتم، إذ يُلاحَظ بأن كل شيء حاضر في هذه المعادلات خصوصاً الجانب النفعي المالي من خلال الإستحواذ على السلطة، والسيطرة على مصادر الأموال والقوة، بإستثناء شيء واحد مطروح من المعادلة وغير موجود فيها ولا في قائمة الأولويات ألا وهو (المواطن)، وهذه حالة طبيعية في مجتمعات كالمجتمع العراقي الذي غلبت فيه دوماً الشعارات المخادعة على المشهد وإعتقاد المواطن بها وتصديقها بخاصة إذا كان الشعار دينياً أو قومياً كونه يدور في فلك المقدس الذي الذي غدا جزء من المنظومة القيمية للفرد مما أدى ذلك الى مساهمة الفرد (المواطن) في صناعة الإقطاعيات السياسية الحاكمة وصناعة الزعماء والقادة كما كان الإنسان سابقاً يصنع أصنامه بنفسه ومن ثم يقدم لها فروض الولاء والطاعة ولا يستطيع بعد ذلك تهشيمها كونها تطبعت وتغلفت بغلاف القدسية.

لا يمكن المراهنة على هذه الإقطاعيات السياسية الحاكمة لبناء العراق وبناء دولة المواطنة كونها تؤمن بكل شيء لكنها لا تؤمن بشيئين (المواطن، والقانون)، إذ ان هذه الإقطاعيات السياسية وأتباعها من الطبقة الجديدة وذيولها من موظفي البيروقراطية الإدارية وأبواقها من الإعلاميين المرتزقة الذين يستلهمون أفكارهم من (القادة الرموز)، جميعاً يمتصون مقدرات الدولة ويستنزفون طاقاتها من خلال إفتعال الأزمات والحروب الداخلية والصراعات الطائفية والقومية والحزبية، فهي لا تمتلك إرادة البناء (مع احتكارها لكل الوسائل التي من شأنها إعادة اعمار وبناء الدولة).

إن القدر السيء والحظ العاثر لهذا البلد يشبه ذاك القدر السيء والحظ العائر للكثير من الشعوب عبر التاريخ وكان آخرها قدر الشعوب التي ابتليت في جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق وإتحاد الجمهوريات اليوغسلافية... إذ تحولت الدولة إلى منظومة قهر وظلم وتدمير للإنسان الفرد وكرامته وسلب حريته وتجويعه من خلال أساليب الحكم السيئة والمقيتة بأسم الشعار وبأسم المصالح العليا للبلد... هكذا فعلت الطبقة الجديدة بالإنسان في تلك المجتمعات التي إختزلت الشعوب في الحزب القائد ومن ثم الحزب القائد في قيادات نفعية متنفذة ومن ثم اختزال حتى القيادات في ذات الزعيم الأوحد.

إزاء هذه الحالة المأساوية الحالكة التي نمر بها في العراق، نحن أمام خيارين، إما خيار الإصلاح (اصلاح جميع المؤسسات المجتمعية والسياسية وتصحيح مسار الديمقراطية) من خلال رأي عام عقلاني وعصري بعيد عن أساليب العنف... وإما الإستسلام للواقع وترك الطبقة الجديدة والإقطاعيات السياسية تسمن كحيتان تلتهم كل شيء.