رغم أهمية روسيا سياسيا واقتصاديا وثقافيا وهي البلد المترامي المصنع والغني إلى حد التخمة بالثروات الطبيعية وبالأعراق والقوميات ذات الثقافات المتعددة، والمؤثر في السياسة الدولية باعتباره أحد أهم أقطابها وعمالقتها الكبار، إلا أن العلاقات التونسية الروسية لم ترق بعد إلى المستوى المأمول رغم أن آفاق التعاون عديدة ومتنوعة. فالعاصمة التونسية لم تشهد يوما حلول أي من الرؤساء الروس ولا حتى السوفيات إبان الحرب الباردة وقبل إنهيار الإتحاد، كما لم يزر أي من رؤساء هذا quot;البلد السعيدquot; موسكو رسميا واقتصر الأمر على الوزراء وكبار المسؤولين من كلا البلدين الذين تبادلوا الزيارات وأنجزوا بعض الإتفاقات.
وجمع لقاء يتيم ووحيد رئيسي البلدين، وكان ذلك في سنة 2000 على هامش قمة الألفية التي انتظمت بمقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك. كما زار ألكسي كسغين رئيس وزراء الإتحاد السوفياتي الأسبق تونس أواسط السبعينيات وكانت زيارته ناجحة إلى أبعد الحدود وأشاد فيها بما تم إنجازه في الخضراء، واعتبر أن من يرى تونس وجيرانها يعتقد أنها هي من تملك الثروات النفطية وليس الجيران. ورد على هذه الزيارة المرحوم الهادي نويرة الذي كان وزيرا أول بأن حل بموسكو بعد سنتين باحثا عن آفاق جديدة للتعاون مع العملاق السوفياتي.
لقد كان الإتحاد السوفياتي خير سند لتونس في كفاحها لنيل الإستقلال، وفي معاركها السيادية لمد سيطرة السلطات المستقلة على كامل الإقليم. ففي سنة 1952 كان الإتحاد السوفياتي في طليعة الدول الدافعة باتجاه إدراج القضية التونسية في جدول أعمال مجلس الأمن في حين أن دولة مثل تركيا على سبيل المثال امتنعت عن التصويت، وبالطبع فإن فرنسا، المستعمر حينها للبلاد التونسية، كانت ترفض أن ينظر مجلس الأمن في القضية التونسية. وفي سنة 1953 وخلال الدورة الثامنة للجمعية العامة للأمم المتحدة كانت موسكو أيضا تقف جنبا إلى جنب مع لبنان ومصر والمملكة العربية السعودية والعراق وباكستان واليمن وسوريا من أجل المصادقة على مشروع قرار يتضمن ضرورة القيام بالتدابير اللازمة من أجل أن يتمتع الشعب التونسي بحقه في السيادة والإستقلال الكامل والتام.
ورغم أن المرحوم المنجي سليم مندوب تونس في الأمم المتحدة في ذلك الوقت انتقد بشدة في المنتظم الأممي تدخل الإتحاد السوفياتي في المجر في أكتوبر 1956 إلا أن ذلك لم يمنع موسكو من مواصلة مساندتها لتونس المستقلة ديبلوماسيا وتجلى ذلك بالخصوص في أحداث ساقية سيدي يوسف سنة 1958 (عندما تم قصف مدينة حدودية تونس نتيجة لمساندة أبنائها للثورة الجزائرية)، وفي معركة الجلاء ببنزرت (حرب خاضها الجيش التونسي ضد القوات الفرنسية لإجبارها على ترك قاعدة عسكرية أرادت باريس الإحتفاظ بها شمال البلاد) سنة 1961 وما تلاها من معارك ديبلوماسية طاحنة. فقد استقبل في تلك الفترة رئيس الوزراء السوفياتي أندري قروميكو الدكتور الصادق المقدم في موسكو مبعوثا من الرئيس الحبيب بورقيبة. كما استقبل الرئيس نيكيتا خروتشوف وفدا إفريقيا جاءه داعما لتونس في قضية بنزرت ووعد الرئيس السوفياتي بتقديم الدعم الديبلوماسي اللازم وأدان سياسة حلف شمال الأطلسي في إقامة قواعد عسكرية في الخارج. وصوتت موسكو بالفعل لصالح المطالب التونسية في مجلس الأمن وانتقد مندوبوها الإستعمار الغربي ودعوا إلى ضرورة تصفية تركته.
كما أن دعم الولايات المتحدة لاستقلال تونس ولمعاركها الديبلوماسية الشهيرة التي قادها الجهبذي المرحوم المنجي سليم بتخطيط من الزعيم بورقيبة مرده وجود الإتحاد السوفياتي الذي تخشى واشنطن من أن يتمدد في شمال إفريقيا ويطوق أوروبا الغربية، مجالها الحيوي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والذي أعادت إعماره بناء على ما عرف بـquot;مخطط مارشالquot;. فمصر عبد الناصر كانت تحتفظ بعلاقات جيدة مع موسكو، وكانت لها امتداداتها داخل جبهة التحرير الوطني في الجزائر التي تكافح لاسترداد السيادة. وسقوط تونس الواقعة في قلب شمال القارة السمراء سيعني نهاية للهيمنة الغربية من خلال الإستعمار القديم على هذه الرقعة الجغرافية المتاخمة للقارة العجوز وللأساطيل الأطلسية المرابطة في شمال المتوسط، ووصولا من الدب الروسي إلى المياه الدافئة التي طالما حلم بالوصول إليها في ذلك العهد.
ولعل الرسالة شديدة اللهجة التي بعث بها الرئيس الأمريكي أيزنهاور إلى رئيس وزراء فرنسا فيليكس قايار بعد أحداث ساقية سيدي يوسف تبرز القلق الشديد الذي كانت تشعر به واشنطن من تمدد نفوذ المعسكر الشرقي وخشيتها من أن يلامس بلاد المغرب الكبير بفعل سياسات فرنسا الإستعمارية، وهو قلق استغله الحبيب بورقيبة أفضل استغلال في ذلك الزمن للمضي قدما في معركته التحريرية. فقد خاطب إيزنهاور، قايار قائلا: quot;ترجلوا من على صهوة جيادكم العالية، وهدئوا من غلو جناحكم اليميني ولنحاول جميعا إنقاذ الرئيس بورقيبة وتونس، لصالح العالمquot;.
ويشار أيضا إلى أن موسكو صوتت في مجلس الأمن لصالح قرار يدين إسرائيل من أجل قصفها لحمام الشط التونسية وهي تلاحق منظمة التحرير الفلسطينية أينما حلت أواسط ثمانينات القرن الماضي في نصر ديبلوماسي تونسي ساحق لم توظف خلاله الولايات المتحدة حق النقض الفيتو. وبالتالي فقد ظلت وفية على الدوام لمساندتها للخضراء رغم أن العلاقات لم تكن بالتطور الذي يجعل الدب الروسي يضحي بمصالحه مع الدول الكبرى أو مع ذوي السطوة والنفوذ في العالم من الداعمين للكيان الصهيوني.
إن الزيارة التي يؤديها إلى بلادنا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف - وهي الثانية له لتونس والأولى بعد التطورات التي عرفتها البلاد بعد حراك ما يسمى quot;الربيع العربيquot; - يجب أن تكون لبنة تؤسس لعلاقات حقيقية تتوج بلقاء قمة حين يكون لتونس رئيس دائم منتخب مباشرة من الشعب بالإقتراع العام ولديه القدرة على بناء علاقات قوية ومتينة مع الخارج وعلى استشراف آفاق التعاون الدولي. كما يجب أن يسعى الجانب التونسي إلى تكثيف هذه الزيارات لتتوج باتفاقيات تعاون في شتى المجالات. فروسيا هي قارة بكل ما للكلمة من معنى، ولديها الكثير لتقدمه لتونس ويكفي أن تدفع وكالات أسفارها المواطنين الروس على اختيار الوجهة التونسية وأن يشجع الكريملين كبار رجال الأعمال الذين يخضعون لسطوته ونفوذه ممن استوطنوا الساحل اللازوردي الفرنسي والأحياء الراقية في لندن على الإستثمار في ربوعنا لينتعش القطاعان السياحي والإستثماري.
كما يمكن التعاون بين البلدين في مجالات أخرى على غرار مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والثقافة والتعليم والبحث العلمي وغيرها. فالشعب الروسي هو الأقرب إلى البيئة الشرقية من بين جميع الشعوب التي استوطنت شرق القارة العجوز وهو الأقدر من غيره على فهم طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية بحكم علاقات ضاربة جذورها في القدم مع مسلمي آسيا الوسطى والقوقاز وبلاد فارس.