تمايزات كثيرة بين أداء الأحزاب الإسلامية خلال فترة وجودها في السلطة، وبعد اندلاع الثورات العربية، تجعل من موضوع النظر إلى كل التجربة في البلدان التي صعدت إليها أمراً صعباً وغير منصف، فهذه الأحزاب التي جاءت عبر صناديق الاقتراع وبكامل الإرادة الشعبية في كثير من الدول العربية، بالذات التي شهدت حراكاً ربيعياً شعبياً، هي أحزاب ضعيفة الخبرة السياسية ولا يمكن ان تعامل كما تعامل احزاب أخرى لها باعها الطويل في الحكم في البلدان العربية.
الواقع الراهن يكشف عن تعدد مظاهر التعثر النسبي للأحزاب الإسلامية في المنطقة، لا سيما لدى المقارنة بمرحلة الصعود وتوقعات استمراره عقب الثورات والانتفاضات العربية؛ حيث شهدت المرحلة التالية لتفجر هذه الثورات صعودًا لتيار الإسلام السياسي في مختلف دول المنطقة، صاحب ذلك تقييمات أولية بتوقع استمرار هذا التصاعد في حضور هذا التيار، وزيادة سيطرتها على مختلف مؤسسات الدولة. غير أن هذه التقييمات أصبحت بحاجة للمراجعة في ضوء عدد من العوامل، لعل أهمها الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر.
فالأحزاب السياسية المنتمية لتيار الإسلام السياسي عانت بشكل أساسي من أزمات شرعية مركبة، والتي تسببت بشكل رئيسي في تعثر مسار هذه الأحزاب السياسي في عدد من دول المنطقة، من خلال عدد من الملامح؛ حيث عدم القدرة على بلورة برنامج ديني متكامل يجعل من الشرعية الدينية بديلا عن مصادر الشرعية الأخرى، بالإضافة إلى الطابع العشائري لبعض التنظيمات الدينية، وإعلاء اعتبارات الولاء والانتماء على الكفاءة، فضلاً عن مخاطر التوظيف الاستقطابي للدين في تصعيد حدة الصراعات السياسية، والمساهمة في تهديد كيانات الدولة القائمة مع عدم تقديم بديل فعلي، وكذلك افتقار الخصائص الكاريزمية الطبيعية والمكتسبة في الشخصيات الشاغلة للمناصب القيادية، إلى جانب الضغوط الناجمة عن محدودية الانتشار الفعلي لنماذج ناجحة جاذبة.
وفي المقابل انتشرت نماذج الفشل والممارسات السلبية، وكذلك الافتقار إلى بلورة الرؤية الإصلاحية، والكوادر والآليات المؤسسية لتنفيذها، وزيادة المحاباة، وخلق شبكة جديدة من الأتباع السياسيين، وغموض الهياكل المؤسسية الداخلية للحركات والتنظيمات الإسلامية.
لا بد في هذا السياق من التأكيد على اختلاف الحالتين التركية والمصرية، من حيث المقدمات والمآلات؛ إذ جاء حزب العدالة والتنمية في تركيا كنتاج لتطور سياسي واجتماعي وثقافي لم يتوفر لحزب الحرية والعدالة في مصر، ولهذا نشأ حزب العدالة والتنمية كحزب علماني يميني وسطي، في الوقت الذي لا يوجد فيه في تركيا منتج فكري إسلامي يسمح بالتوجه ناحية الفكر الجهادي، بعكس الحال في مصر مع جماعة الإخوان المسلمين التي خرجت من عباءتها الجماعات الإسلامية، كما لم يتجه حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى طريقة التفكير الأممي على الرغم من تاريخ الإمبراطورية العثمانية، بخلاف طريقة التفكير التي تتبعها جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي نظرت إلى ما بعد الدولة، وركزت على ما بعدها.
تيار الإسلام السياسي في ليبيا تيار فاعل ومؤثر خلال فترتي ما قبل الثورة وما بعدها، على الرغم من القيود التي فرضها نظام القذافي على حزب العدالة والبناء، وتعامله مع جماعة الإخوان المسلمين وفق منطق الصراع الصفري، وهو ما أدى إلى عدم قدرة الإخوان المسلمين في ليبيا على تكوين رأس مال اجتماعي وسياسي، وربما هذا ما أسهم بشكل أو بآخر في جعلها طرفًا مؤثرًا وليس مهيمنًا. كما يبرز في هذا السياق العامل القبلي الذي يعد الأكثر حسمًا وتأثيرًا في ليبيا من العامل الديني، وهو ما يحد أيضًا من إمكانية هيمنة تيار الإسلام السياسي على مقدرات الأمور في ليبيا، فمستقبل الإخوان المسلمين في ليبيا تحكمه قدرتهم على تحقيق رغبتهم في تحولهم لما يمكن وصفه بـquot;رمانة الميزانquot; بين الأطراف السياسية المختلفة التي يمكن أن ترجح طرفًا على آخر، وهو ما قد يبرر لجوء الإخوان إلى قانون العزل السياسي، بهدف التأثير على التركيبة البرلمانية للبلاد.
النموذجان المغربي والتونسي ظلا مختلفين إلى حد بعيد عن النماذج المتقدمة، فنموذج حزب العدالة والتنمية في المغرب يمكن وصفه بأنه quot;نموذج متماسكquot; حيث وفرت له الظروف التاريخية بيئة مناسبة لتحقيق بعض التقدم. حيث نشأ الحزب منذ عام 1967، وتبنى منهج التدرج في خوض العمل السياسي حتى وصل إلى 107 مقاعد في البرلمان في الانتخابات الأخيرة، كما لم يكن الحزب في خلاف مع النظام المغربي منذ نشأته، بل اعترف بالنظام الملكي للدولة، ودعم فكرة الملكية الدستورية. غير أن الحزب قد واجه عددًا من العثرات، تمثلت في تعثرات وظيفية، حيث لم يستطع تقديم نجاحات ملموسة في أهم الملفات التي حركت الشارع المغربي عقب الثورات العربية، وهو الملف الاقتصادي، وملف حقوق الإنسان، فضلا عن إخفاقه في الحفاظ على التماسك الداخلي داخل الحزب نفسه، وكذلك قدرته على الحفاظ على تحالفاته مع القوى السياسية الأخرى.
أما فيما يخص تجربة تونس، فلعل من أوضح أسباب تعثر حركة النهضة تتمثل في حرص الحركة على القفز سريعًا على السلطة، وعدم محاولة اكتساب الخبرة مقدمًا، وهو ما اتضح من خلال وجود كوادر غير قادرة على إدارة العملية السياسية، إلى جانب محاولات الاستحواذ على السلطة، والتحالف مع أحزاب أخرى ضعيفة للمحافظة على هذا الاستحواذ، غير أن ذلك لا ينفي محاولة الحركة الاستفادة من تجربة الإخوان المسلمين في مصر، وتقديم عدد من التنازلات للمحافظة على بقائها في السلطة، من خلال الاعتراف بالمعارضة، والدخول معها في حوار وطني، وقبول مطلب استقالة الحكومة.
تجارب الأحزاب الإسلامية في السلطة حتى الآن لم تكن مبشرة وواعدة كما كان متوقعاً، ولعل ضعف الخبرة السياسية واستعجال قطف الثمار الآنية، والاصطدام مع تيارات سياسية تقليدية ترى في الإسلاميين مجاهدين برؤية سياسية وتهييج الشارع أحياناً ضد وجودهم في السلطة، ووجد رابط سياسي ايديولوجي بين معظم هذه الأحزاب (الإخوان المسلمين) واتهامهم بالتنسيق العالي فيما بينهم كلها عوامل تجعل من تجربة الأحزاب الإسلامية في المنطقة تجربة منقوصة وغير مكتملة الملامح، وهي تجربة تحاول المأسسة والتبلور على الرغم من حالة الهيولى التي تعيشها الآن والتباين في النتائج والمخرجات.

هشام منوّر.... كاتب وباحث