طرحت قضية بقاء سلطة الأسد مع وجود الجهاديين في القاعات المخفية المرادفة لقاعات جنيف-2، وربطوا بينهم بعلاقة جدلية، عدمية السلطة والقضاء على الجهاديين، اتفقوا على أن التغيير يعادل الزوال ليس إلا، هناك تلاقت المصالح عند طرفي الجدال، والاتفاقيات أصبحت شبه كلية، لا رحيل لسلطة بحضور الجهاديين، ولا خروج للجهاديين من سوريا بدون قضاء شبه كامل عليهم.

رافق مؤتمر جنيف-2 جلسات سرية بين أمريكا وروسيا ووفود من دول معنية بالقضية السورية، خارج جنيف، بعيدا عنها مكاناً وغاية، ببنود مغايرة لسجالات قاعاته الرسمية، وحلول مختلفة عن المطروح هناك لسوريا الجارية والمستقبل، وقد بين أغلب المحللين السياسيين، على أن المؤتمر لم تكن سوى اتفاقية بين الدول الكبرى لتمرير الوقت، وبطريقة مغايرة عن المعهود، وعليه لم تجلب انتباههم بما سيتمخض عنه المؤتمر، بل والأكثر منه، كانت النتائج معروفة أو محددة مسبقاً، ولم تتحرك أية قوة خارجية ولم تستعمل ضغوط دبلوماسية لفعل شيء ما في هذا المجال، بل كان لهم رأي حول بيان الطرفين عن الفشل، وأتبع ذلك مباشرة، وعود، بـ (ربما) يكون هناك جلسات قادمة، والواقع الجاري آنذاك ألغت التأملات، وعليه انفض الجميع عن فكرة إعادة الحوارات، وبدأت الدول الكبرى بعرض البديل الحاضر سلفاً، وبمستوى أعلى دبلوماسياً وسياسياً، فنقلت القضية من سوية قاعات جنيف2 إلى قاعات مجلس الأمن، وللمرة الثالثة وببنود مغايرة لا علاقة سياسية، كوجود السلطة أو عدمه بها، مع تمرير جماعي وبدون فيتو اعتراضي، أي عمليا قزمت الثورة السورية ثانية بعد جنيف2 بعد التضحيات الجسام، انتقلوا إلى إبراز الوضع الإنساني، إلى المآسي التي شاركت فيها معظم الدول والقوى المعنية بالقضية السورية، الدول الكبرى بتساهلهم مع سلطة الأسد، وفتح الأبواب على مصراعيها لدخول التيارات التكفيرية والجهادية بكل أريحية إلى جسم الثورة السورية، وبمساندة مباشرة وغير مباشرة من الدول المساندة للسلطة وفتح المجال الميداني لهم من قبل السلطة نفسها.

تدرك أو أعلمت السلطة بالمتفق عليه، فسخرت كل قواها للحفاظ على وجودهم مثلما فعلت كل جهودها لجلبهم إلى سوريا، تدعمهم بكل الأساليب، تهاجمهم لغايات معينة، تفتح لهم كل المجالات بالعبث في الأطراف وبالشعب السوري أينما كانوا وتحثهم على نشر مفاهيم شاذة ومنبوذة من الشعب والدول الكبرى، يرافقهم فيها رجال بلحى يدعون المشيخة، مشبوهون غير معروفين يطلقون فتاوى وأفكار تعيد الوطن إلى قرون خلت، مثل دعواتهم إلى إعادة عصر الخلافة الإسلامية، شخصيات مدربة لنشر هذه المفاهيم على الإعلام، وهم نادرا ما يجابهون قوات السلطة، بل في كثيره يخلقون الحجج والبنية الملائمة لجلب السلطة بصواريخها والبراميل المتفجرة على القوات التي تمثل الشعب السوري، وهم بهذا يخدمون السلطة من الجهتين.

وبالمقابل أبلغت المعارضة الخارجية والداخلية أيضاً بما أتفق عليه، ولتفادي المعضلة تحركت أو أجبرت بعض القوى الوطنية على مواجهة البعض من الجهاديين الأكثر قربا من السلطة مثل داعش، لكن الظروف الدولية وبمساندة السلطة أصبحت دحرهم صعباً، حتى ولو تمكنوا من إخراجهم فإن وجود جهاديين آخرين مثل النصرة وغيرهم سيبقون الحجة على الإبقاء على استمرارية الصراع في سوريا، حتى ولو افترضنا جدلاً أن الجهاديين في سوريا سيقضى عليهم فهل سيقضى على منابعهم المنتشرة في كل العالم الإسلامي وفي الشتات الموزعة حتى ضمن الدول الديمقراطية الكبرى، بينهم أمريكا وروسيا.

ولا شك الخلافات الفكرية بين القوى المعارضة واسعة، خاصة بعد انحياز العديد من القوى أو الشخصيات، التي كانت وطنية يوما، إلى جانب الجهاديين تحت حجج واهية يعلمون تماما أن الصراع على هذه السوية الجهادية الإرهابية لن تأتي على نهاية سلطة شمولية مدعومة من معظم الأطراف الدولية، وسوف لن تقوض بنية نظام غارق في الشرور، بدءً من نظام البعث إلى النظام الثقافي الحاضن للجهاديين والتكفيريين، والذي لا يقل شرورا من ثقافة السلطة الشمولية، وعليه يمكن القول بأن هؤلاء جميعا يتحملون مسؤولية بقاء الأسد ودعم الدول الكبرى المباشر وغير المباشر لشروره وجرائمه دون أن يضعوا له حداً.

ولا شك أن الدول الكبرى المعنية بقضية الجهاديين والإرهابيين، يدركون تماما أن منابع الإرهاب ومنظمات الإسلام السياسي أوسع من أن يتمكنوا في تنشيفه، تمتد على مساحة جميع الدول الإسلامية وخاصة الحاضنة لمفاهيم المذاهب المتعددة التي تخرج جحافل التكفيريين. ويبقى التمعن فيما يبحثون عنه، بعد استنفاد المطلوب من القوى الإسلامية السياسية، كتغيير الجهاد إلى صراع مع الذات، وإقحامهم تلك المنظمات في قتال داخلي، بخلق مفاهيم متضاربة معتمدة على ثقافة المذاهب الإسلامية المتنوعة، وفي النهاية إبعادهم عن الدول الكبرى، وقد كانت هذه غاية روسيا والسعودية من تطويل أمد الصراع الدائر في سوريا، وجلب الجهاديين من خارج الوطن، مثلما كانت غاية السلطة وإيران والقوى الأخرى المشاركة في تشويه الثورة.

كما وتدرك الدول الكبرى، أن ما تقوم به سلطة بشار الأسد من الدمار والقتل وما تنشره من الفساد خلال يوم واحد تعادل ما تقوم به معظم التكفيريين والقوى الشعبية التي تدافع عن ذاتها على مدى شهور، لكن مع ذلك تنشر الحذر من دعم الثوار الحقيقيين تحت حجة التكفيريين الذين هم في واقع الأمر عملاء السلطة بطريقة أو أخرى، مرة بإعطاء الحجة للدول الكبرى بعدم دعم الثورة ومرة بضرب شرائح المجتمع السوري ببعضه البعض وإلهائه عن مجابهة السلطة ونشر الفساد لتجعل من سلطة الأسد الماضية نقية أمام الموبوء الجاري.

ومن خلال ما يحضر في الأروقة الدبلوماسية المخفية، يمكن القول على أن مصير الثورة السورية ربطت بالجهاديين وبقوة، وعزل الطاغية بشار الأسد وسلطته الشمولية حظرت ضمن جدلية إنهاء التكفيريين والمنظمات الإسلامية الجهادية أو تعديل مفاهيم التيارات الإسلامية السياسية مثلما طبلت لإسلام حزب العدالة والتنمية التركي.

وكأننا نرى مصير الصراع في سوريا قد قرر على مدى سنوات قادمة إلى أن يلحق الدمار بالشعب والوطن إلى أخر بيت وأخر فرد لم يُهجْر ضمن أو خارج جغرافية الوطن، إلى أن يبقى الأسد وسلطته وحدهم يمثلون النظام والشعب معاً، يحكمون ذاتهم بذاتهم على أرض التهمتها الحرائق والدمار وفي وطن دمرت بالصواريخ والبراميل المدفوعة ثمنها من دماء الشعب.

إنها رؤية تفرض ذاتها بسبب المنطق المؤكد على أن الجهاديين في العالم سوف يتوافدون على أرض سوريا ما دامت عمليات الحسم عند أصحاب الأروقة الدبلوماسية غير واردة بين الشعب والسلطة، ومادامت البنية ستبقى ملائمة للقادمين، والكل يدرك أن منابعهم لن تنشف في عهود قادمة، وهم يدركون أن السلطة السورية وأئمة ولاية الفقيه وملوك السعودية ممولي معاهدهم الفكرية وداعمي تكيات المتخصصة، سيبقون على نفس النهج كل لغايته، فالثورات التي اجتاحت الشرق استغلتها التيارات السياسية الإسلامية، وباجتياحاتهم تلك بدأوا يضعون نهاياتهم السياسية، والقوى الكبرى تساهلت في كثيره، وعليه عرضوا مفاهيم مغايرة للحد من شرورهم، فخططوا لتغييرات في الإسلام السياسي، ربما ليس من خلال القضاء على كلية الجهاديين بل بتغيير بنية المفاهيم، كالتحوير الذي يراد له أن ينتقل من الإسلام الراديكالي إلى الإسلام السياسي الليبرالي.

وإلى أن يستقر رأي الدول الكبرى على مخطط مشترك على كلية قضايا الشرق، سيبقى الشعب السوري والشعوب التي اجتاحتها الثورات عرضة لدمار سلطات شمولية وطغاتهم، ولنهب الانتهازيين والمنافقين وتجار الحروب، الذين سلبوا الثورات، وسيستمرون على نهبهم على مدى سنوات قادمة، والغريب في هذا الخضم المتلاطم استمرار السلطات الشمولية بالدعاية لعصرها المليء بالفساد والآثام والشرور على أنه كان الأفضل لشعوبهم من الجاري، عارضاً المقارنة بين جهنم الماضي وسعير النار الجاري، متناسيا المستقبل القادم بدونهما وأنظمتهما الموبوءة.

الولايات المتحدة الأمريكية

[email protected]