من خلال القراءة المتأنية و الدقيقة لأحداث العالم العربي و حروبه و معاركه خلال العقود الأربعة الأخيرة من التاريخ تتبين ظواهر عجيبة و امور غريبة و قضايا مرعبة وقفت خلفها أجندات و إرادات و محطات دولية و إقليمية زرعت الرعب و الموت و الدمار في هذه المنطقة الحيوية من العالم... صراحة قبل عام 1980 لم تكن هنالك ثمة إشارة لأية حروب و مشاكل و مشاحنات طائفية في العالم العربي، ولم تكن للتيارات الطائفية الرثة أية أدوار جماهيرية تمارسها و لا ادوات تنعق بإسمها و تلهج بشعاراتها المريضة في الشارع العربي، و كان الشارع العربي مقسما بين التوجهات و التيارات السياسية التي كانت سائدة من يسارية شيوعية او ماركسية او تقدمية او قومية بعثية كانت أم ناصرية، وكان الصراع السياسي المحتدم يتمحور حول مطالبات المعارضات العربية بالعدالة الإجتماعية و المشاركة في السلطة او محاولة بناء وحدات و تجمعات و اطر قومية تعكس روح الفريق الواحد و الشعب الواحد، ففي المغرب مثلا رغم بروز و نمو التيارات الدينية المحافظة إلا أن للتيارات الإشتراكية و اليسارية كانت الغلبة و كان الصراع بين السلطة و المعارضة منصبا على حرية العمل النقابي و تأمين مصالح و حياة الطبقة العاملة و تخفيف حدة التوتر والصراع الطبقي، وكان حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية في حالة صراع مع مؤسسة العرش وصل لحدود التآمر و الإشتراك في محاولات الإنقلاب العسكرية الدموية التي حدثت أعوام 1971 و 1972 ومواجهات العمل المسلح عام 1973 ثم سلسلة الإنتفاضات التي بدأت أعوام 1965 و 1981 ثم 1984 حتى إستقرت سفينة الوضع في ميناء الحوار الإجتماعي و التفاهمات الضمنية قبل أن تبرز الجماعات الدينية و تدخل في حروب شوارع مع الجماعات الإشتراكية، في تونس المجاورة كانت الصراع مع النقابات هو جوهر الموقف، أما الجزائر فكانت خاضعة لسطوة حزب جبهة التحرير في ظل قيادة بومدين الحاسمة في مصر كان الوضع مختلفا بعد فترة الصراع الشرسة بين النظام الناصري و الإخوان المسلمين ثم وقوع هزيمة 5 يونيو 1967 و الإنشغال بملف إزالة آثار العدوان ورحيل عبد الناصر و مجيء السادات بصدماته الكهربائية و التي أعادت الحياة للتيارات الدينية قبل أن يتطور الموضوع ليشمل إغتيال السادات عام 1981 ودخول مصر مع حسني مبارك لمرحلة جديدة و مختلفة من تاريخها الطويل المعقد، أما في الشرق فنبدأ من الخليج العربي و حيث كانت التيارات الإشتراكية في جنوب الجزيرة العربية أيام اليمن الجنوبي هي المهيمنة كما كانت سلطنة عمان تعيش أجواء ثورة ظفار التي تمت تسويتها سلميا، وفي البحرين كانت الحركة العمالية و النقابية هي في واجهة الأحداث ولم يكن للأحزاب الطائفية أي وجود ميداني ملموس بل كان الصراع صراعا طبقيا و نقابيا محضا ضمن إطار الوطن و الشعب الواحد، أما في سوريا وحيث قلب الحركة القومية العربية الحديثة كانت تيارات حزب البعث تتصارع بين قيادات مدنية تؤمن بالعدالة الإجتماعية و بقدر من الليبرالية و بين تيارات عسكرية أتيحت لها فرصة السطوة على السلطة و بخلفيات طائفية من خلال اللجنة العسكرية العلوية عام 1963 و أمعنت في تكسيح حزب البعث و إنهاء دوره بالكامل و تحول القضية لصراع بين العسكريين المتصارعين الذين أكل بعضهم بعضا حتى تمكن شدهم خبثا و دهاءا و تآمرا وهو حافظ الأسد من الإنفراد بالسلطة عام 1971 مدشنا سلالته الإرهابية الحاكمة واضعا كل قوى اليسار السوري تحت إبطه و متخذا خطا علمانيا متطرفا في البداية قبل أن يتم الجنوح صوب السياسة الطائفية في أوائل ثمانينيات القرن الماضي و بعد التحالف الستراتجي مع نظام الخميني في إيران.

أما العراق و ما أدراك مالعراق فقد كان يغوص في لجة الفوضى و عمليات الإنقلاب العسكري منذ عام 1958 و كان الصراع الميداني قائما بين التيار الشيوعي الذي كان غالبا في مدن جنوب ووسط العراق و بين التيارات البعثية و القومية دون الخوض في أية صراعات طائفية لم تكن لها في الساحة و الأجندة الشعبية العراقية أي وجود، لقد كان صراعا دمويا شرسا و عاتيا بين الشيوعيين و البعثيين وصل لنهايته الشكلية في صيف عام 1973 بعد قيام الجبهة الوطنية و التحالف بين الحزبين حزب السلطة ( البعث ) و حزب المعارضة الجماهيري الواسع ( الحزب الشيوعي العراقي ) وهو تحالف تكتيكي إستمر لخمسة أعوام ثم إنهار بالكامل أواخر عام 1978 ليدخل العراق في العام الذي يليه 1979 بأعنف مواجهة داخلية في حزب السلطة أسفر عن مذبحة بين البعثيين أنفسهم فيما كان المشروع الطائفي الإيراني قد إنطلق من عقاله عام 1979 ليفرض تأثيراته المباشرة على صورة الشرق الأوسط، وحيث كان العراق و الخليج العربي محطته الرئيسية الأولى، فالمشروع الطائفي/ الديني الذي حمل لوائه و مشعله آية الله الخميني كان مشروعا طموحا إنقلابيا تصديريا عمل الإيرانيون و بإصرار لا يعرف الملل و جهود لا تعترف بالكلل على إبرازه و دعمه و جعله مشروعا ستراتيجيا يخفي أهداف و مطامع و طموحات قومية تحت عباءة الشعارات الطائفية الرثة و إحياء الصراعات المندرسة لأقوام الماضي و إثارة النعرات المكبوتة التي تجاوزها الزمن و لكنهم أحيوها بصورة خبيثة هي القمة في الدهاء و العبقرية الشيطانية ودس السم في العسل، ففي العراق مثلا تغيرت قواعد اللعبة السياسية بالكامل و أنحسر المد الشيوعي الذي كان طاغيا و متفشيا في الجنوب العراقي الفقير و المعدم لصالح المشروع الطائفي الإيراني الذي كانت له قواعد صغيرة و مجاميع ساكنة محصورة في بيئتها و حاضنتها المحدودة، فالتيارات الدينية السياسية في المجتمع العراقي كانت محدودة للغاية في ظل حالة الإنفتاح و التطور التي كان يعيشها العراق، وكل الجماعات الدينية كانت محصورة في الأماكن الريفية و لم يكن يسمع بها أحد كما لم تكن هنالك على مستوى إدارة الدولة أية فروق طائفية و كان التداخل الإجتماعي كبيرا وواسعا و كانت الطائفية مجرد توجهات فكرية و ليس تقسيمات إجتماعية أو سياسية، إلا أن التطور الأكبر كان عام 1980 بعد إتساع الدعم الإيراني المباشر لحزب الدعوة الذي أسسته قيادات إيرانية الأصل مرتبطة أساسا بنظام الشاه الراحل و دوائر المخابرات البريطانية الخبيثة في مثل هذه الأمور، و كانت دعوة الخميني لإشعال حرب التحرير في العراق و إسقاط نظام البعث و إقامة البديل الديني الطائفي على النمط الإيراني هي إشارة الإنطلاق للمواجهة الكبيرة بين السلطة و حزب الدعوة وهي مواجهة كانت قائمة ميدانيا بشكل خجول منذ عام 1977 تحديدا في تظاهرات النجف و مواجهات ( خان النص ) الشهيرة، و كانت المواجهة صعبة و دموية و شرسة تكللت بحملة إعدامات شرسة أقدم عليها النظام و توج باللجوؤ لسياسة تهجير جماعي لعوائل عراقية بعضها و ليس جميعها من أصول إيرانية في نيسان 1980 و بما زرع مآسي إجتماعية لم تنته تداعياتها حتى اليوم و أسس لحالات شقاق إجتماعي رهيبة لعب الإيرانيون أدوارا مباشرة في تأجيجها لقد تنكرت الحكومة الإيرانية لأولئك المهجرين و عاملتهم أبشع معاملة عنصرية كما عايشنا ذلك ميدانيا، وذلك ملف خطير لم يتم التعامل معه بالشفافية و لا بالقانونية المطلوبة حتى اليوم.
في المنطقة الخليجية كان الشحن الطائفي الإيراني هو العنصر الفاعل من خلال اللوبيات الإيرانية النشطة في المجتمعات الخليجية، ففي البحرين كان المشروع الإيراني الطائفي يهدد ذلك البلد الصغير بالتمزق عبر محاولة النظام الإيراني إسقاط الحكم البحريني و إعادة إلحاق البحرين بإيران، و هو مخطط مركزي في عقل و خلايا النظام الإيراني، فالبحرين مدخل إيراني مهم لإسقاط الجزيرة العربية وصفحات المؤامرة الإيرانية مستمرة بو تائر مختلفة و متوالية، و ما يحدث في البحرين منذ ثلاثة أعوام هو تطوير جديد لخطط إيرانية قديمة لن يهدأ أوارها أو يفتر عزمها حتى إنهيار المشروع الإيراني التخريبي في الشرق، وفي الكويت تتحرك الخلايا السرية التجسسية الإيرانية و يكتسب اللوبي الإيراني القوي هناك مناطق تمركز ونفوذ جديدة منتظرا الفرص المستقبلية السانحة، كما أن تيار الفتنة الإيرانية قد وصل لليمن مشعلا الحروب القذرة بين أبناء الوطن اليمني مؤسسا لحالات شقاق و تنازع خطرة، ولعل أخطر نقطة في تأجيج الصراع الطائفي و تمزيق العالم العربي قد تمركز في الشام التي يخوض شعبها ثورة شعبية عارمة منذ ثلاثة أعوام و نيف تدخل الإيرانيون خلالها بكل قوتهم و عنفوانهم و أستطاعوا بوسائلهم الطائفية الخبيثة فرض الإقتتال بين العرب أنفسهم هناك حين إستحضروا عصابات حسن نصر الله من اللبنانيين و عصابات الأحزاب الطائفية العراقية و مجاميعهم الخاصة لخوض المعارك وسفك دماء الشباب السوري دفاعا عن نظام إرهابي مجرم و تحت يافطة الشعارات الطائفية المريضة، سفك دماء الشباب العربي في سوريا هو كارثة قومية حقيقية نجح النظام الإيراني في تفعيلها و جعلها واقعا سوداويا في ظل صمت عربي قاتل و تردد تاريخي يفصح عن عجز عربي مؤسف... للأسف الإيرانيون في تقدم مضطرد بينما النظام السياسي العربي لاملك سوى أن يعد النجوم و الشجر و يبكي على الأطلال....!.