في الدول المتقدمة لا يقتصر الأخذ بالنهج الديمقراطي والمشاركة الجماهيرية على المجالات السياسية فحسب، بل يشمل أيضاً كافة مجالات الحياة والتنمية، والتي من بينها وأهمها المجالات العلمية.
على سبيل المثال، أعلنت الحكومة البريطانية أخيراً خلال شهر مايو(آيار) الحالي عن جائزة قيمتها 10 مليون جنيه إسترليني من خلال "جائزة خط الطول" (Longitude Prize)، للمساعدة في إيجاد حل لواحدة من أكبر التحديات العلمية في عصرنا، وذلك من خلال مشاركة الجماهير بالتصويت لإختيار التحدي العلمي الذي يستحق الجائزة من بين ستة تحديات علمية وهي: الطيران، والغذاء، والمضادات الحيوية، والشلل، والمياة، والخرف، ويتم ذلك بالتعاون مع قناة "بي بي سي" البريطانية، التي أفردت برنامجاً علمياً لمدة ساعة كاملة لتعريف الجماهير بالآفاق الواعدة والتحديات التي تواجه هذه المجالات العلمية الستة، وهي: كيف يمكننا الطيران دون الإضرار بالبيئة ؟، وكيف يمكننا أن نضمن لكل فرد التغذية المستدامة المغذية ؟، وكيف يمكننا منع مقاومة المضادات الحيوية ؟، وكيف يمكننا استعادة الحركة للمصابين بالشلل؟، وكيف يمكننا أن نضمن لكل فرد إمكانية الحصول على مياه آمنة ونظيفة ؟، وكيف يمكننا مساعدة الأفراد الذين يعانون الخرف(dementia) من العيش بصورة مستقلة لفترة أطول ؟، ويمكن مشاهدة البرنامج العلمي عن التحديات العلمية الستة والتصويت للجماهير على الموقع الإلكتروني: (http://www.bbc.co.uk/programmes/b006mgxf)، وسوف تعلن نتائج هذا التصويت في 25 يونيو(حزيران) المقبل 2014.
وجائزة خطوط الطول، وموقعها الإلكتروني (www.longitudeprize.org)، وضعتها الحكومة البريطانية عام 1714 ، بهدف ابتكار وسيلة موثوقة يستطيع البحّارة من خلالها تحديد مواقع السفن خلال الإبحار وذلك بإستخدام خطوط الطول الجغرافي، وكانت قيمتها حينذاك 20,000 ألف جنيه إسترليني، وقد حصل عليها صانع الساعات الإنجليزي جون هاريسون (John Harrison) (1693- 1776)، وجائزة خطوط الطول تضم في عضويتها حالياً 8 شركاء، و 18 عالماً من أبرز العلماء البريطانيين.
هذا النموذج البريطاني الرائد في الديمقراطية في العلوم، يؤكد على أن التجربة الديمقراطية ليست فقط في صناديق الإنتخابات، بل أيضاً في جميع مجالات التنمية، والتي منها مجالات العلوم، كما يقدم دروساً لعالمنا العربي في كيفية تمويل البحوث العلمية وضرورة وأهمية مشاركة الجماهير بالرأي والتصويت في رسم السياسات العلمية التي ستعود نتائجها في النهاية على جميع أفراد المجتمع والعالم أجمع، كما يقدم دروساً عن دور الإعلام العلمي الجاد في التنمية، وذلك من خلال تعريف الجماهير بمجالات العلوم الواعدة التي تشكل تحدياً عالمياً، وأخذ أرائهم عن تمويل ما يستحق منها، وذلك من خلال نقل ما يحدث خلف معامل العلوم ومراكز البحوث، ليتعرف الجمهور عن قرب عن قيمة العلم وأهميته في حياته اليوميه وجميع مجالات التنمية، وبالتالي يدرك المواطن أهمية مشاركته بالرأي في رسم السياسة العلمية العامة للدولة، ولو بالتصويت والإقتراع لإختيار أي التحديات العلمية من وجهة نظره التي تستحق الإهتمام والتمويل البحثي من الدولة، ويؤدي هذا في نهاية الأمر الى فهم ووعي علمي وحراك ونقاش مجتمعي فعال ومتزايد حول العلم وشؤونه وقضاياه، أسوة بما يحدث في شؤون السياسة. ففي الدول المتقدمة يعد مبدأ المشاركة الجماهيرية وأخذ رأي المواطن سواء بالقبول أو الرفض حول المشاريع المزمع إنشاؤها أو حول القضايا والتحديات المجتمعية، يعد ضرورة مهمة لإتمام ونجاح عملية التنمية في كافة المجالات.
كما أن هذا النموذج في الديمقراطية في العلوم، يثير لدينا تساؤلات عديدة عن حالة العلم في عالمنا العربي، ومتى سيحتل مكانه اللائق، وأيضاً عن حالة الإعلام العلمي لدينا، ومتى سيكون لدينا برامج علمية متميزة يعدها ويقدمها علماء وإعلاميين متميزين في الإعلام العلمي، حتى تحظى بالإهتمام والمتابعة والمشاركة الجماهيرية الواسعة، كما أن ذلك يلقي الضوءعموماً على أهمية دور الإعلام المتميز في المجتمعات المتحضرة في إشاعة أهمية مفهوم المشاركة الجماهيرية الفاعلة.
وأخيراً.. لن تكون لنا قيمة وقامة إلا بالإهتمام بالعلوم وتمويلها على أوسع نطاق وتقدير العلماء، وكذلك بمشاركة الجماهير في رسم السياسة العلمية للدولة، وذلك من خلال إعلام علمي جاد متميز يواكب العلم وتحدياته وآفاقه التنموية الواعدة.
ويبقى السؤال: إذا شارك الجمهور العربي في التصويت لإختيار أي من هذه التحديات العلمية الستة التي تستحق الحصول على جائزة التمويل البحثي.. ماذا ستكون النتيجة؟&

كاتبة وباحثة في الشؤون العلمية