تحت عنوان "برقش بلا سياج"، وأسبوعاً تلو الآخر تنطلق من العاصمة عمان قافلة سيارات، تُقل ناشطين بيئيين مناوئين للاعتداء الحكومي على غابة برقش، تضم القوافل شباناً ومسنين وأطفالاً، يقتربون من السياج الذي ضربه الجيش على ما يقارب الألف دونم من "رئة الأردن"، كما يحلو للمحتجين تسميتها، يُعلقون على السياج أوراقهم الرافضة لما يجري، وسط صمت حكومي، قد يكون دليلاً على عدم الاهتمام بهذا الحراك، أو دليلاً على غياب أي تبرير لخرقها القانون النافذ، وهو يمنعها من بيع أو تفويض أي منطقة حرجية لأيٍ جهة أو شخص، أو تخصيصها أو بيعها أو مبادلتها مهما كانت الأسباب، كما لايجوز تقسيم الأراضي الحرجية داخل حدود التنظيم، أو تغيير صفة استعمالها، كما أن قانون الزراعة يحظر قطع أي من الأشجار الحرجية المعمرة& أو النادرة، والنباتات البرية المهددة بالانقراض أو إتلافها أو الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال.
&الحملة الوطنية لإنقاذ غابات برقش من الإعدام، دانت عملية اجتثاث أشجار معمرة ونادرة في برقش، ووجهت رسالة إلى رئيس الوزراء ووزيري الزراعة والبيئة طالبتهم فيها بإجراء تحقيق رسمي يؤدي لمحاسبة من أصدر أوامر قطع وإزالة هذه الاشجار المعمرة، و تكليف الجهة التي أقدمت على القطع، بزراعة أشجار مساوية للعدد ومن نفس النوع، كما طالبت بإلغاء السماح للقوات المسلحة باستعمال أراضي برقش الحرجية، وإعادتها لإشراف مديرية الحراج بالكامل. كما تم توجيه رسالة للملك ورئيس الوزراء والوزراء وأعضاء البرلمان، وتضمنت المطالبة "بالحفاظ على إرثنا الطبيعي وعلى مستقبل أبنائنا" وطالبت بوضع حد فوري لقطع الأشجار في غابة برقش، لأن قطع الأشجار أو إتلافها أو الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال، هو غير قانوني وفقاً للمادة ٣٥ من القانون رقم ٤٤. وطالبت الرسالة بفتح تحقيق كامل ومستقل حول الأحداث، وتحميل المسؤولين عنها كامل المسؤولية، لأن غابة برقش هي إحدى جواهر الأردن الثمينة، ونرفض أي مشاريع لإيذائها.
لم يتلقى أحد جواباً من أيٍ كان، ويبدو أن برقش ستظل معضلة، كانت توقفت بداية أحداث الربيع العربي، خشية المشاعر الشعبية تجاه ما يكتنف المشروع من فساد، ولأن الأردن ليس بحاجة إلى كلية عسكرية جديدة، فقواته المسلحة متخمة بخريجي الكلية العسكرية، حتى أن بعض أفضلهم يحال للتقاعد قبل بلوغه الأربعين، بسبب الزحام المعيق للحركة، وهناك المئات من خريجي جامعة مؤتة والمعاهد العسكرية، يلتحقون بصفوف الجيش بفخر يتجاوز المردود المادي من هكذا "وظيفة"، غير أنه يلاحظ أن الراتب التقاعدي الذي يتقاضاه الضباط الشباب، من رتبة رائد إلى عقيد، أفضت إلى حالة من الغضب والتململ في صفوف هؤلاء الذين بلغوا "سن الرشد العسكري"، بعد تلقيهم العديد من الدورات، من بينها دورة الأركان، التي أحيل بعض الضباط الواعدين إلى التقاعد فور اجتيازها بنجاح، غير أن الواضح أن هناك عقلية سقيمة ترغب بالتباهي بإنشاء كلية عسكرية في منطقة بالغة الجمال والفرادة، في عملية نقل لتجارب الآخرين دون وعي أو دراسة، أو حساب لخصوصية الوضع الأردني وطبيعة جغرافيا الوطن، الذي يسير بتسارع مدهش إلى التصحر المؤكد، وإذا سلمنا جدلاً بالحاجة إلى الكلية العتيدة على أمل تحقيقها لفائدة تنموية كما يشاع، فلماذا لاتقام خارج عن المنطقة الحرجية أو قريبا منها، دون اقتراف جريمة إعدام آلاف الأشجار، التي تمتص الهواء الفاسد لتطلق بدلا منه الأوكسجين النقي، فإذا علمنا أن الجيش اعتاد إقامة معسكراته ومعاهده في مناطق صحراوية، اجتهد في تخضيرها وبقعها الخضراء تمتد على طول طرقنا الصحراوية، فلماذا يزج به وهو فخر الأردنيين الذي لايُدانى في مشروع تكتنفه شبهات الفساد، وبهدف منع المواطنين من الاعتراض عليه رغم إدراكهم لمخاطره.
لانناقش هنا نفي الجيش لقطع أشجار برقش في المنطقة المفوضة له من الحكومة خلافاً للقانون، بزعم أنه أزال أشجاراً دمرتها العاصفة الثلجية، التي يبدو أنها لم تجد في كل مساحات برقش غيرها لتدمر ثروتنا الحرجية فيها، ولنشاهد النتيجة في أكوام مئات أطنان الحطب، معروضة للبيع على جوانب طريق جرش لمالكي "فاير بليس" في قصور عمان وفيلاتها.
الواضح عند الناشطين البيئيين أن هناك قراراً بالاستيلاء على الغابات، وإقامة مشاريع معزولة عن الناس، ومهما كانت هذه المشروعات مفيدة لأصحابها او ناجحة، فإنه نجاح لا علاقة له بالناس ومواردهم، ولا يمكن النظر إليها باعتبارها مشروعات اقتصادية أو تنموية، وهذه الرغبة الجامحة بامتلاك أراضي الغابات، يتناقض جوهريا مع فلسفة الغابة وطبيعتها، فالأصل في الغابات أن تكون فضاءً مشتركاً لجميع الناس، يقيمون فيها مشروعاتهم المتفقة مع طبيعتها كغابة، وكملكية مشاعية متاحة لجميع الناس، أو إقامة مشروعات في طبيعتها تحافظ على الغابات وتجددها، وفي حين يؤكد الناشطون البيئيون أنه ليس مطلوباً الحفاظ على الغابات كرمز مقدس مجرد عن حياة الناس ومصالحهم، فإنهم يملكون حق السؤال عن كيفية المحافظة على الغابات وتجديدها، وفي الوقت نفسه عن كيفية إدارتها بطرق تلبي احتياجات المجتمع، وتحسن حياته وخدماته وموارده المستمدة من الغابات، وفي واقع الأمر فإن الوقوع في مطب الجدل بين قطع الأشجار والإبقاء عليها، يبتعد عن الهدف الأصيل للتنمية، والمؤكد أنه ليس من الإنصاف اقامة كلية عسكرية في برقش، بقدر ما هو مطلوب تنمية المجتمع المحلي حولها، من النواحي الاجتماعية والاقتصادية وتوعية أفراده بعظم الثروة التي يحافظون عليها، فليس صحيحاً أن مواطنا في عجلون أو غيرها، يقطع شجرة ليبيعها حطباً لو وجد كفايته.
مهم هنا الإشارة إلى دراسة الدكتور فاخر العكور التي يعدد فيها الآثار البيئية الناجمة عن إزالة الأشجار من غابة برقش، فيقول إنه تم تقدير القيمة النقدية للشجرة الواحدة، لمثل الأنواع النباتية الموجودة في غابة برقش، وبظروفها وحيويتها وعمرها وخاصيتها الوجودية بما يعادل الألف دينار أردني، يتم دفعه لكل شجرة بحالة زراعتها ببيئة جديدة،& واكتساب التكاملية البيئية الموجودة حالياً في نفس المكان، لحين وصولها لهذا المستوى من خصائص طبيعية وبيئية. ويسأل كم شجرة ستزال؟ وكم كائن حي سنفقد؟ وكم سنفقد من فلاتر طبيعية؟ وكم سنخسر من كوتا الكربون العالمي؟
يضيف الدكتور عكور أن النظم البيئية تعتبر منظومة حيوية متكاملة تتصل أطرافها بوسطها وبآخرها اتصالاً بصرياً من ناحية المنظر الطبيعي، كوحدة واحدة يعمقها الاتصال الجيني، الذي يغذي بعضه البعض بالأصول الجينية لبعض الأصناف من الكائنات الحية الدقيقة والكبيرة، التي يكون لها دور حيوي في تنشيط التفاعلات الحيوية لمستويات الطاقة في الغابة، والتي عادة ما يتم توفير بيئات خاصة لتكاثرها، قد لا تتوافر في المكان الذي تتواجد فيه في مرحلة النضج الفسيولوجي، وهنا أعني وسط الغابة، وبالتالي يتم رحيلها إلى أطراف الغابة، نظراً لتوفر الظروف البيئية المناسبة لإحداث عمليات التكاثر والتزاوج الجنسي لها، وتوفير الحواضن الطبيعية لبيوضها او لأفراخها، لحين تجاوز مرحلة الغضاضة العمرية، وعند التقدم بالعمر ووصولها لمرحلة النضج الفسيولوجي، تنتقل إلى البيئة الخصبة لها في وسط الغابة، والتي تتفاعل حركاتها وحيويتها مع هذا الوسط، حيث يعمل بعضها كملقحات، أو نواقل للتلقيح للأنواع النباتية المختلفة في الغابة، على مستوياتها النباتية الثلاث "الاشجار والشجيرات والنباتات الأرضية" وهي نفسها مصادر غذاء وبيئات حضن لهذه الأنواع من الكائنات الحية، والعكس صحيح حيث وجد أن بعض البيئات المناسبة لما سبق يكون في وسط الغابة، ويعني ذلك أنه في حالة تغيير مكونات هذه المنظومة الطبيعية، فإن تدهور الغابات حاصل لا محالة، وهنا لا يقتصر التحليل العلمي على قيم هذه الأشجار التاريخية، والبيئية المتعلقة بتحسين نوعية البيئة، والتقليل من الاحتباس الحراري فقط، وعليه فإن التاثير البيئي سيكون ونتيجة الازعاج الحاصل على البيئة وكنتيجة لتغيير معالم سطح الأرض في الغابة، سيفقد هذا التواصل الجيني ومع مرور الزمن ستفقد الأشجار الكائنات الحية الفاعلة بإحداث التكاثر، وبالتالي الإخلال بالتوازن البيئي الحيوي في الموقع.
يمضي الدكتور عكور إلى القول، إنه على مستوى الطاقة وعلاقتها بالأنواع الحيوية الموجودة، فإنه عادة ما يتم تقسيم الغابة إلى ثلاث مستويات، تبدأ من الأعلى بطبقة الأشجار المرتفعة، ولها خصائص التأقلم مع الضوء الواصل لها بكامل طيفه الضوئي، وإلى الطبقة الوسطى (الشجيرات) والتي تأقلمت على نوع مختلف من الضوء الواصل إليها نتيجة انعكاس الضوء من الطبقة الاولى، أو من حجب جزء منه بأوراق الطبقة الأولى، وبالتالي تقليل حجم حزمة الضوء الساقطة على هذا المستوى، والطبقة السفلى أو الثالثة والتي تختص بالنباتات ذات القدرة على تحمل غياب الضوء المباشر، وهي نباتات ظل، وكنتيجة لإزالة جزء من الغابة، فان الأجزاء التي كانت بالأصل ظليلة تتكشف، وتتغير مستويات الطاقة فيها، مما يؤدي حتماً إلى هجرة هذه الأنواع، واندثار بعضها الآخر، وبالتالي تدمير الغابة نهائيا.
يخلص الدكتور عكور إلى نتيجة أن النظم الحيوية تنقسم الى ما يسمى بالرقعة وهي المساحة من الارض ذات الخصائص الحيوية والبيئية المتشايهه دون تقطيع باتصالها والى ما يسمى بالحواف والتي غالبا ما تكون خليطاً من الانواع الحيوية والبيئات والتي عادة ما تكون غنية بالاصول الحيوية والجينية للرقع النقية سابقة الذكر، وقد يفصلها ممرات ولا تعمل هذه الممرات على العزل بين ما هو موجود على يمينها وما هو موجود على يسارها لانها من نفس التركيبة الطبيعية الموجودة في الغابة "ترابية او مائية"، ويخلص إلى أن ما يحصل بحالة العمران او حتى مجرد فتح طرق معبدة أن تفقد هذه المنظومة تواصلها، وقد تتحول الحواف إلى مناطق فقيرة وتتدهور خصائصها وتتصحر، وأما الرقع فانها قد تتحول مع الزمن إلى حواف جديدة، تتفاعل مع أنواع جديدة من الكائنات الحية، التي لا تعتبر من مكونات الحلقة البيولوجية الطبيعية الأصلية، فتتغير معالم النظام الحيوي السائد، فتفقد البيئة مكوناتها وتتدهور ثم تتصحر، فهل ذلك ما يريده صاحب المشروع وما يرفضه الناشطون البيئيون رافعين شعار برقش بلا سياج أسبوعياً، رغم تجاهل الإعلام بشقيه الرسمي والشعبي لحراكهم ما يزيدهك عناداً وتصميماً على المواصلة تحت سقف القانون الذي يمنع ما يجري في برقش.
&