أقل ما يمكن للمرء إدراكه في معرض التمييز بين الوطن و المواطن، هو ما يمليه القدر الإلهي على الجميع بأي سبب كان، و "لكل شيء سبباً" كما نعلم أو كما هي المقولة، التي أُخذت من آية قرآنية: "وآتيناه من كل شيء سبباً". عنيت هنا أن للإنسان قدر لا محالة، هو الموت و الفناء، أما قدر الأرض فهو الدوام و البقاء الى يوم القيامة و الى ساعة النفخ في الصور، و هذا يعني بجملة:أن الوطن باقٍ و الأشخاض زائلون، و لايختلف الأمر فيما يتعلق بالعراق أيضاً، إذ يظل البلد دوماً أكبر بكثير من قادته و سلاطينه، أو ملوكه و حكامه، لأنه باقٍ و قائم حتى اليوم، أما أولئك الذين يحكمونه سوف يزولون و ينتهون كما كان ذلك حال كل من حكم البلاد من قبلهم!

القيمة الرمزية للوطن تكمن في هذه القدرية التي تُبقيه هو حياً و تزيل كل مَن عليه مِن المحسنين و المسئيين معاً، و الأهم من ذلك، تتمثل في الذاكرة التي يُكَوّنها الوطن من الأحداث و التجارب التاريخية، و ينقلها من جيل الى جيل، مخبراً بها الناس عما كان يفعلوه الطغاة و الأشرار بالعباد و ما كان يقدمه المُحسنين و الخادمين للبلاد.

الوطن يبقى لكي يحكي لنا حكاية الدهر و يزودنا بالخبرة و الذاكرة و المعرفة، لا سيما لِمَن يروم التعلم من التاريخ و يبغي تجنب تكرار المساوئ و المظالم التي أوقعت البشرية في الظُلُمات و مهالك الحياة. و هذا يعني أن الوطن ليس بجغرافيا سياسية فحسب، و إنما هو أكثر من ذلك، أنه شيء مركب من كل ما يتعلم منه الإنسان لكي يكون في النهاية مواطناً صالحاً!، كما أنه ثلاثي الأبعاد يُجسد الذاكرة و الخبرة و المعرفة في آن واحد، فضلاً عن أنه يلعب دور الشاهد على حقب التاريخ المعني بمسيرة الإنسان و مصيره، و عليه، فلا يمكن أن يفلت منه أي شيء، أنه كالصندوق الأسود، الذي يُدَوّن لنا كل ما يحدث من دون اللجوء الى المؤرخين التابعين للسلاطين!، أو الذين يشوهون الحقائق و الوقائع التاريخية و يكتبون بما تمليه عليهم الحُكام، و إنما يحقق ذلك من خلال كل من أستبعدهم المُتَحكم بالدهر، أي أولئك الذين همشوا على مر التاريخ و أضطهدوا و حرمو من حقوقهم الإنسانية، والذين هم بطبعهم لاينسون الماضي أبداً، لأنه بالنسبة اليهم هو التاريخ بعينه! طالما دام التاريخ على حاله دون أي تبديل و تغيير، مسيطرون عليه الطغاة و من يرثهم سياسياً دهر بعد دهر!

كتبت هذه السطور لأذكّر رئيس الوزراء الحالي في العراق" نوري المالكي" بأنه هو الشخص الوحيد اليوم، الذي يجهل تاريخ بلاده و أمر عباده معاً، و هو السياسي الوحيد الذي لم يستفد لا من دروس الماضي ولا الحاضر، و ربما سقوط أجزاء كبيرة من الوطن في الأحداث الأخيرة و فقدان الحكومة لثقة الجيش بها و رضا المواطنين عنها في تلك الأجزاء من البلاد هو خير دليل على مانقول، ولكن الأسوأ في نظرنا هو التغطية على هذه الحقائق بذريعة مواجهة الإرهاب و بالتغاضي عن الأبعاد السياسية للأحداث،فضلاً عن سيادة عقلية خطيرة هي إختزال الوطن و المواطن الى كل من يقف الى صف الحاكم فقط، أما المعترضون عليه، فالى الجهنم و بئس المصير!

من جانب آخر، يتبين للمرء هنا أن الجهل بالوطن و المواطن ليس جهلاً بالتاريخ فقط، و إنما هو بمثابة التطاول على قيم الديمقراطية أيضاً، خاصة إذا ما عَلِمنا أن الديمقراطية متعددة القيم و المباديء، أي أنها لا تُختزل في الإنتخابات وحدها و إلا كان هتلر هو أيضاً من "أنبياء الديمقراطية!"، علاوةً على أن جوهر هذه الفلسفة السياسية – كما يقول لنا السوسيولوجي الفرنسي الكبير آلان تورين - هو ضمانات الأقلية قبل أن يكون حكم الأغلبية.

بعبارة بسيطة،أن الديمقراطية هي النظام الذي يجعلنا ننفتح على من يخلافنا في الرأي و الفكر، أو العقيدة و المذهب، أو الدين و القومية، أو المصلحة و المنفعة، و ليس العكس، أي مَن يتماهى معنا و يقول ما نقوله. والمشكلة هي أن رئيس الوزراء لا يفهم أمر الإختلاف هذا و لا يقبل به، و إلا لما كان كل هذه النزاعات و الأزمات التي نعيشها، والأمر لايرجع الى إن الرئيس غير مؤمن بالإختلاف و متمسك حتى هذه اللحظة بإرث سياسي سلطوي مدمر للحياة فحسب، و إنما راجع الى نسيانه أيضاً، فور وصوله الى السلطة و السلطان، لأبسط الأمور وأسهلها، ألا وهو إستحالة قبول البلاد و العباد ثانيةً بديناصورات سياسية جديدة في العراق، تفترس المواطن من زاخو الى آخر الديار و تُحكم الوطن بالحديد و النار و تخضع الجميع لإرادتها بالعنف و الدمار.

نعم أن رئيس الوزراء، أوقع نفسه في مأزق سياسي كبير، كان بإمكانه تجنبه إذا ما لم يتشبث كل هذا التشبث بكرسي الحكم و لم يتجاهل إنتقادات حتى أبناء جلدته في التحالف الوطني الشيعي و يستمع اليهم. و الرأي هذا لايُعبِّر اليوم فقط عن وجه نظر المكون الكردي، الغاضب من سياسات هذا الرجل، الذي أصبح يجازف بالعراق بلاداً و عباداً، وإنما بات حديث الشارع كله، الكل أصبح يُفكر في مستقبل البلد و يندد بما يمارسها المالكي من سياسات عدائية تجاه خصومه و كل من يعترض على نهجه العنيف و مواقفه المستقوية بالفتن و الطائفية، وحتى أبناء المكون الشيعي صاروا اليوم يخشون مما ستؤول اليها الأحداث و ما سيواجهونه هم أيضاً جراء سياسات الحكومة بحق المكونات العراقية الأخرى، ذلك لأنهم يفهمون جيداً بأن من ستدفع ثمن كل هذه السياسات الخاطئة في النهاية، هو صورة الشيعة في العراق، الصورة التي يعمل المالكي، بوعي أو دونه، على إختزالها في تجربته الفاشلة في السياسة و الحكم، هذا في الوقت الذي يحتاج فيه المكون الشيعي في العراق الى أن يُقدم لجميع العراقيين نموذجاً حسناً في الحكم المعتدل و الوطني، و يمارس أقصى درجات الإنفتاح بوجه الآخرين، و يحقق الشراكة الحقيقية القائمة على ما يضمن أستقرار البلاد، أي على التوزيع العادل للسلطة و الثروة مع كافة الشركاء في الدين و الوطن معاً، خاصة أن لهذا المكون رموز و شخصيات وطنية عديدة، يمكن أن تحظى بقبول جميع أطياف المجتمع و تكسب دعمهم.

&

كاتب و باحث – كردستان العراق