فكرت كثيراً في التجارب التنموية الناجحة في عالمنا المعاصر، وركزت من بينها على تجربتي دولة الامارات العربية المتحدة وجمهورية سنغافورة، فوجدت أن هناك قواسم مشتركة عدة بينهما أبرزها وجودها "الأب الروحي" أو رائد النهضة الذي تحمل على عاتقه عبئ النهوض ببلده حالماً طامحاً إلى الارتقاء بها وسط الدول والشعوب، فوجدت في تجربة دولة الامارات العربية المتحدة، المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ وفي سنغافورة وجدت رئيس وزرائها الراحل &لي كوان يو، الذي توفى خلال شهر مارس الماضي، والذي يعد "الأب الروحي" المؤسس للبلاد بمساهمته في النهوض بها بشكل لافت وتحويلها إلى مركز مالي وتجاري اقليمي وعالمي رائد في منطقة شرق آسيا.
وجدت قواسم مشتركة عدة بين هاتين القامتين التاريخيتين، من أبرزها أن الزعيمين الراحلين حكما بلديهما لمدة 33 عاماً استطاعا خلالها إحداث نقلة نوعية وتحويلها إلى بلد يعرف طريقه إلى التنافسية العالمية، فزايد الخير كان رجل دولة من طراز فريد، وكان حكيم عصره وأمته، ورجل مبادىء من الطراز الأول، فقد كان كما قال الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران "إننا نعرف يا صاحب السمو أنكم تريدون أن يسود الحق فوق القوة، وأن تعلو الشرعية على الأمر الواقع"، &وفيه قال الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات فيه "لقد ضرب والدكم المثل الرائع في العروبة الأصيلة، والعمل المثمر الصامت الذي لا تسبقه أية دعايات" وأيضا قال عنه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر "لا يملك المرء إلا أن يبدي إعجابه بزعامة صاحب السمو الشيخ زايد وحنكته السياسية، وهذه المنجزات العمرانية والحضارية الهائلة التي تحققت بدولة الإمارات بفضل قيادة سموه في زمن قياسي". كذلك كان لي كوان يو، الذي وصفه الرئيس الأمريكي باراك أوباما عقب وفاته بأنه "عملاق كبير في التاريخ"، ووصفه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بأنه "واحد من أفضل رجال الدولة في العالم"، وقال بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة حين وفاته إن " العالم سيتذكره بانه كان من أكثر القادة الآسيويين الهاماً".&
ثمة قاسم مشترك آخر بين زايد الخير ـ طيب الله ثراه ـ وكوان يو يتمثل في الشخصية الكاريزيمية التي تمتع بها الزعيمان، والتي أسهمت في نجاح قيادتهما لبلدهما وفاعليتها في تحقيق الانجازات، فزايد الخير هو مؤسس الامارات وباني نهضتها الحديثة وكوان يو يوصف بأنه "مهندس سنغافورة الحديثة"، كما كان الزعيمان قائدان ملهمان لشعبهما ومن جاء بعدهما في حكم البلاد وكانا، وسيظلا، مثل أعلى تقتدي به الأجيال، حيث نجح زايد الخير في تحويل إمارات صغيرة إلى اتحاد نموذج في معاييره السياسية وبنيانه الهيكلي مع ماتبع ذلك من تحويل للصحراء الجدباء في مختلف مناطق الامارات إلى بلد واحد ذو اقتصاد قوي متطور ينافس اقتصادات العالم المتقدم، فيما نجح كوان يو في تحويل الجزيرة الآسيوية الصغيرة إلى واحدة من أكثر اقتصادات العالم ازدهارا وانتعاشاً عقب حصولها على الاستقلال من ماليزيا، وانتقالها من جزيرة مليئة بالمستنقعات والبعوض إلى مركز مالي عالمي يشار إليه بالبنان.
قواسم أخرى عدة يمكن أن تفرزها دراسة هاتين الشخصيتين التاريخيتين، منها أيضا الاستفادة من دروس البيئة المحيطة وظروف الحياة الأولى التي تتسم بالصعوبة والخشونة، التي أثرت في شخصيتهما وأصقلتها، فزايد الخير تعلم في واحات العين الدروس الأولى للتغلب على صعاب الحياة ومواجهتها، وكوان يو جرب الفقر ووصف نفسه في أحد كتبه بأنه "مقاتل الشارع"، وقال عن فترة الاحتلال الياباني لبلاده " رأيت في الاحتلال الياباني لسنغافورة كيف يخضع الناس لأنهم يريدون الحياة والطعام. تعلمت بعد ذلك ماذا تعني القوة"، أي أنه كان يمتلك روح مقاتلة ويعرف قدرها وتأثيرها واهميتها ومن ثم فقد أسهمت وأثرت إيجابا في نهضة بلاده تغلبها على عقبات التنمية.
كوان يو أيضا هو صاحب مدرسة قيمية، ورائد من رواد الأخلاق في بلاده؛ وكما كان زايد الخير ـ طيب الله ثراه ـ يجسد القيم والأخلاق العربية الأصيلة، كان كوان يو صاحب مفهوم "القيم الآسيوية"، التي تراعي خصوصيات هذه المجتمعات العريقة وتنطلق من مبادئها ومورثها الأخلاقي في رسم حدود للعلاقات بين الأفراد، أو تأطير قواعد العلاقة بين الحرية والمسؤولية.&
نجح الزعيمان الراحلان أيضا في بناء نموذج متشابه لدولة قوية منفتحة على الحضارات والثقافات &الانسانية كافة، ترتكز على قيمة العمل والانتاج والتنوع الثقافي والحضاري والانساني، وتستغل ما تتمتع به من مزايا في هذا الشأن. ولذا كان الزعيمان الراحلان علامات بارزة في تاريخ البشرية خلال القرن العشرين، حيث ألهمت تجربتهما التنموية المحيط الجغرافي وقادت دول عدة للبحث عن دروب للنجاح والاستفادة من هاتين التجربتين الرائدتين في إقليمهما.
إذا، نلحظ أن "الأب الروحي" يمثل حجر أساس في كثير من التجارب التنموية الناجحة في العالم، فالشعوب تحتاج إلى قيادات وطنية ملهمة تلتف حولها شريطة أن تكون هذه القيادات لديها رؤية استراتيجية واعية لما تريد الوصول إليه وكيفية توظيف موارد بلادها ومصادر دخلها، وأن تبتعد عن الشعارات والمعارك الأيديولوجية العبثية التي لا طاثل من ورائها سوى الثرثرة والضجيج الاعلامي.
ما يميز دولة الامارات وتجربتها الاتحادية التي تحتفل هذه الأيام بمرور أربع وأربعين عاماً على انطلاقها أن روح الآباء المؤسسين لا تزال ترفرف وتحلق فوق سمائها ولا تزال قيم هؤلاء الآباء ومبادئهم والأخلاق والثوابت التي غرسوها تمشي على الأرض بيننا، فقد وهبنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ في دولة الامارات العربية المتحدة نعمة كبيرة بأن يتوالى على حكم البلاد أبناء مدرسة عريقة في الحكم والقيادة، أبناء زايد الخير ـ طيب الله ثراه ـ فهم خير من تعلم على يديه وتربى في كنفه وتشبع من مبادئه وأخلاقه وقيمه الأصيلة، لذا فلا غرابة أن تمضي الامارات على درب عروبتها وأصالتها متمسكة بأمن واستقرار أشقائها العرب مدافعة عنهم في الملمات لا تكترث لا قول قائل ولا حقد حاقد ولا كيد الكائدين.
روح الآباء المؤسسين تحلق في سماء الامارات في يومها الوطني الرابع والأربعين وأكاد أشعر بغبطة هؤلاء الآباء وهم يشعرون بما يحققه الأبناء من انجازات طالما حلموا بها وسعوا إليها، وهذه الروح هي التي نستمد منها إرادة العمل والنجاح ومواصلة الانجاز والمضي على درب التميز والابداع والابتكار.
في مناسبة اليوم الوطني الرابع والأربعين، نتذكر بكل فخر واعتزاز الآباء المؤسسين، فهم من حملوا الأمانة واقاموا البنيان، وغرسوا الغرس الذي نحصد ثمراته اليوم وسيظل أبناؤنا يحصدون ثماره إلى ماشاء الله، وفي هذه الأيام المجيدة ندعوا جميعاً بكل خشوع وإخلاص إلى الوالد والقائد المؤسس المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بأن يطيب الله ثراه ويجعل قبره روضة من رياض الجنة.
&