&

من أحد المؤسسات الفكرية الاستراتيجية المهمة في اليابان هي مؤسسة "السسكاوا فونديشن للسلام"، والتي تهتم بحوار الاسترايجيات الجيوبوليتيكية، وقد دعت هذه المؤسسة مؤخرا المفكر والكاتب الأمريكي، إيان بريمر، إلى العاصمة طوكيو، ليناقش الاستراتيجيات الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. ويعتبر إيان بريمر من خيرة الصحفيين والمفكرين الاستراتيجيين الامريكيين، فقد ولد في عام 1969، وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة ستانفورد الامريكية، في العلوم السياسية، وتخصص في السياسات الخارجية الامريكية. وهو متخصص في مجال الجمع بين العلوم السياسة والاسواق المالية.
وقد كتب بريمر حتى الان تسعة كتب من اهمها، كل أمة لوحدها: الخاسرون والرابحون في عالم مجموعة الصفر، ويناقش هذا الكتاب كيف حولت التكنولوجيا الحديثة كوكبنا الأرضي، من عالم شاسع إلى قرية عولمة صغيرة، لتضيع فيها معالم القوى العظمى، ولتنتهي من عالم مجموعة السبع الدول الغنية والقوية، إلى عالم مجموعة الصفر، الذي تلاشت فيها القوى العظمى واحلافها القوية، والتي من المفروض عليها إدارة دفة هذا العالم الجديد، ونتيجة لذلك نلاحظ الفوضى الخلاقة التي تعيشها السياسات الخارجية العالمية. كما صدر له كتاب بعنوان، نهاية السوق الحرة: من يكسب معركة الدول والشركات، والذي يناقش فيه رأسمالية الدولة، والذي يركز فيه على النظام الاقتصادي الصيني، الذي يجمع بين الرأسمالية وأتوقراطية الدولة، وفي تصوره بأن ذلك ليس نظام ناجح، بدون أسسس ديمقراطية، فنجاح الرأسمالية الحقيقية تعتمد على نظام ديمقراطي يحمي حرية الثراء، ورأس المال، والمنافسة في السوق الحرة. وقد صدر له كتاب مؤخرا بعنوان، القوة العظمى: ثلاثة خيارات لدور أمريكا في العالم، والذي يطالب فيه بمراجعة كاملة لدور الولايات المتحدة في العالم، بعد عقود من استراتيجية سياساتها الخارجية المخلخلة والباهضة الثمن، منذ إنتهاء الحرب الباردة.&& والجدير بالذكر بأن بريمر يكتب في عدة صحف ومجلات غربية، وله مقابلات عديدة على القنوات التلفزيونية الأمريكية والاوربية، كما أنه كاتب بمجلة أمريكية متخصصه في السياسة الخارجية، فورن أفيرز، ومحرر بمجلة التايم الأمريكية، بالاضافة بأنه بروفيسور في بحوث العولمة بجامعة نيويورك.
وقد كتب ايان بريمر مقال هام في مجلة، دي ناشنال انترست، في شهر ابريل عام 2014، وبعنوان، التدهور المأساوي للسياسة الخارجية الأمريكية، العشر سنوات الصعبة قاربت على الانتهاء، ومع ذلك تتلاشى الولايات المتحدة خارجيا. وقد أحببت، إن سمح لي عزيزي القارئ، أن أعرض هذا المقال الهام الذي نشر قبل عام تقريبا، والذي يمكن أن نقيم إستقراءات الكاتب، من خلال ما حدث خلال العام المنصرم، ومدى صحة إستقراءاته، في استراتيجيات السياسة الأمريكية، التي تبدو على السطح محيرة، والتي تقلق الكثير من دول الشرق الأوسط، لتتهم الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بإتهامات متناقضة.
ويبدأ الكاتب مقاله بمقدمة يقول فيها: يبدو بأن الاقتصاد الامريكي بدأ في الانتعاش، مع أن النجوم الصاعدة، الصين، والهند، وتركيا، والبرازيل، يعانون من بطئ النمو الاقتصادي، وخطورة الاضطرابات. فتحسن اساسيات الاقتصاد الامريكي، والتعافي الثابت لسوق العمل، والثورة في انتاج الطاقة، يذكرنا بأن الأمريكين لم ينتظروا واشنطون، لكي يدفعوا لبدء النمو الاقتصادي في بلادهم. وبالبرغم من زيادة قوة أمريكا داخليا، ولكن تأثيرها خارجيا مستمر في التضاؤل، ويبدو بأن الشعب الامريكي لم يزعجه ذلك. فاستطلاع الرأي لبحوث "بو" في شهر ديسمبر عام 2013 بينت بأن معظم الشعب الأمريكي يطالب: "بأن تتفرغ الولايات المتحدة لشؤونها الداخلية، وتدع الدول الاخرى تعالج تحدياتها لوحدها بقدر ما تستطيع." وهو تغير ملفت للنظر عن الاستطلاعات السابقة.& فقد أتفق 80% من الامريكيين بأنه "يجب على الولايات المتحدة ان لا تفكر كثيرا على المستوى الدولي، بل أن تركز أكثر على مشاكلها الوطنية الداخلية."
وفي النظام الديمقراطي لا يمكن استدامة سياسة خارجية طموحة، بدون دعم شعبي. وفي الولايات المتحدة اليوم لا يوجد ذلك الدعم الشعبي. كما تضاءل التأثير الأمريكي خارجيا، بالتغير الجوهري في توازن القوى العالمي. كما لا تملك الصين وروسيا، والهند، والبرازيل، وتركيا، ودول الخليج، والدول الاخرى، القوة، لكي تغير الوضع العالمي لوحدهم، كما يذكرنا التدخل الروسي في أوكرانيا، بأن روسيا تبقى القوة الأكثر تأثيرا في الجوار المباشر، ولديها القوة الاقتصادية والدبلوماسية اللازمة،& لإعاقة الخطط الأمريكية. وعلينا أن ندرك بأن الرئيس أوباما مهتم بأهداف خطته الداخلية، ولن يدعم الشعب الأمريكي، الذي سأم من الحرب، خطر وكلفة اي مشكلة، لا تهدد مباشرا الأمن الأمريكي الداخلي، لذلك لن يكون من الصعب أن يثبط أي سياسي أجنبي الولايات المتحدة، من محاولة التدخل في سوريا، أو كريميا، أو بحر شرق الصين. كما أن ثورة الطاقة لها دورها، فشكرا للتكنولوجيات الحديثة، وتكنولوجية الحفر، فتتوقع وكالة الطاقة الأمريكية، بأنه مع نهاية هذا العقد من الزمن، بأن نصف الطاقة المستهلكة في الولايات المتحدة ستنتج داخليا. كما سيكون 80% من هذه الطاقة المستهلكية داخليا، منتجة من غرب الكرة الأرضية.
وبتذكر كل ذلك، سيكون من الصعب أن يستطيع أي رئيس أمريكي، أن يشرح لشعبه، لماذا على واشنطن أن تتدخل بعمق في مشاكل الشرق الأوسط. كما، ومع الأسف، أضعفت الحكومة الأمريكية قدرتها، على إقناع حلفائها على المساعدة، في معالجة التحديات الأمنية الدولية. فحرب العراق، وافغانستان، وضربات الطائرات بدون طيار في الدول الأخرى، جعل من الصعب على القيادات الدولية الاجنبية أن تقنع شعبها، بأن عليها أن تستمر في دعم السياسة ألأمريكية. كما أن وكالة الأمن الأمريكية الوطنية زادت الطين بلة، بتجسسها على قيادات الغرب، حيث قللت من إمكانية الرئيس أوباما من نقد الحكام المستبدين في التجسس على مواطنيهم، بل الأسوء حينما أصبح على الرئيس الأمريكي شرح، لرئيسي ألمانيا والبرازيل، لماذا يقرأ الأمريكيين رسائلهم البريدية، أو يتنصتون على مكالماتهم الهاتفية.
كما أن معركة المنتجات& الغذائية السياسية قللت من شأن السياسة الخارجية الأمريكية. فلو كانت هناك أي قضية يجب أن يتفق عليها اليوم الحزبين الجمهوري والديمقرطي، فهو موضوع التجارة العالمية. فيجب أن يدفع الحزب الجمهوري بالموضوع لأنه بطل التجارة الدولية، كما على الديمقراطين أن يدعموا خطط الرئيس أوباما للتجارة العالمية، لأن الحزب المسيطر على البيت الأبيض له تأثير كبير على أية اتفاقية عالمية جديدة، بالاضافة بأن "تي تي بي"، وهي اتفاقية الشراكة عبر المحيط الباسيفيكي، هي اتفاقية ستفتح السوق عبر طرفي المحيط الباسيفيكي، وكجزء من أكبر الاتفاقيات التجارية العالمية في التاريخ، كما أنها جزء رئيسي من السياسة الأمنية الأمريكية. ولتحقيق هذه الاتفاقية سيحتاج الرئيس "سلطة الترويج التجارية"، والتي هي سلطة مهمة لتطمئن الشركاء المفاوضين، بأن الرئيس سيقدم الاتفاقية النهائية للكونجرس، لكي يصدق عليها أو يرفضها، بدون التدخل في تغير التفاصيل التي تم الاتفاق عليها في المفاوضات، والتي قد تؤخر الاتفاقية أو تقضي عليها. ومع قرب انتخابات شهر نوفمبر (2014) فحتى الجهوريين أصدقاء التجارة الدولية، سيحاولوا تجنب عطاء الرئيس أية فرصة للبروز، بينما يعتبر الديمقراطيون بأن التجارة العالمية تقضي على سوق العمالة الوطنية الأمريكية. وكنتيجية لكل ذلك لن يدفع الرئيس أوباما للحصول على هذه السلطة، إلا بعد إنتهاء انتخابات نوفمبر(الماضي). (وللعلم فقد وافق على هذه التفاقية الكونجرس الامريكي في الاسبوع الماضي).
وستتسائل& الدول المتحفضة على السياسة الخارجية الامريكية، عن أية التزامات تقليدية ستتسمر الولايات قبولها، كما أن حلفاء أمريكا المقربين، لديهم الكثرة من الاسباب للقلق، فمثلا البعض في إسرائيل، يريدون من أوباما أن يتخلص من نظام الأسد في سوريا، ويفضلون الضربة العسكرية الجوية ضد البرنامج النووي الإيراني بدل المفاوضات. ولكن ليس على إسرائيل أن تقلق، بأن يتنازل أي رئيس أمريكي عن الالتزام بالدعم لأمن إسرائيل. كما يجب إلا تتخوف طوكيو، من أن تفضل الولايات المتحدة علاقاتها مع الصين على حساب اليابان. وحتى لو قررت بريطانيا ترك الاتحاد الاوربي في يوم ما، فالعلاقات التاريخية والثقافية الامريكية البريطانية، التي تربط البلدين، ستبقى قوية. وأما حلفاء الدرجة الثانية، كالمملكة العربية السعودية، وتركيا، والمانيا، لديهم اسباب اكثر للقلق، فالسعوديون لهم الحق أن يتسائلوا عن تأثير العلاقات الامريكية الايرانية الجديدة على مصالحهم في الشرق الاوسط، كما أن النقد الحاد للسلطة في تركيا، يترك أحد الحلفاء الرئيسيين في المنطقة غير متأكدين من الدعم الأمريكي. وأما الرئيسة الألمانية ميركيل غاضبة على التجسس الأمريكي، وقد لا تتفق مع سياساتها ضد السوفيت وخاصة في أوكرانيا.
ولكن القلق الاقليمي الأكبر هو في شرق وجنوب أسيا، حيث أن بعض جيران الصين القلقين، يحتاجون لبقاء أمريكي موثوق به، دول كاندونسيا، والفلبين، والفيتنام، يأملون بأن يعمقوا علاقاتهم التجارية مع الصين، بدون الاعتماد عليها امنيا.& ولذلك يريدون أن تبقى العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة، للمحافضة على توازن القوى في القارة الاسيوية. ومهما تكن السياسات الأمريكية مترددة في قبول أية مسئوليات في الشرق الأوسط أو أوكرانيا، ولكن على واشنطن أن تكون أكثر عمقا في ارتباطها مع أسيا، وذلك لأن الصعود الصيني، مع القوة اليابانية، والسوق التجارية الحيوية والصاعدة في جنوب كوريا، والنجمة الاندونوسية المستقبلية، تجعل هذه المنطقة الأهم اقتصاديا عولميا مع الجيل القادم.& وذلك لأن ليس هناك اتحاد اسيوي، أو أية قوة أمن اقليمية، قادرة على إدارة المنافسة، بين هذه الدول، وخاصة بأن الحساسيات قد بدأت من الان، وليس هناك منطقة ستدهور الاقتصاد العالمي، والاقتصاد الامريكي، مثل هذه المنطقة، اضافة للتحدي الشمال الكوري، ليجعل وجود قوة خارجية تخلق الاستقرار واضحا. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان