&
لم تشهد منطقة الشرق الاوسط وخصوصا العراق وسوريا هجرات طاردة لشعوبها مثلما تحصل الان ليس هربا من الفاقة والجوع والعوز فهذه الحالات قد اعتدنا عليها حتى تكيّفنا معها وصارت جزءا لايتجزأ من معاناتنا اليومية وكأننا تآلفنا مع الحرمان من أساسيات الحياة انما البلوى الكبرى من الحروب المستعرة الطويلة التي تأبى ان تتوقف وما تخلقه تلك الحروب من مآسي التهجير والنزوح وماتطرحه من موتى ومعوّقين وأرامل وأيتام وأزمات لاتحصى يزاد عليها فقدان الامن والطمأنينة في العيش وكأننا لسنا بشراً مثل بقية الشعوب الهانئة السعيدة القانعة بما لديها&
اضافة لما تخلفه استمرارية الحرب من انتشار هائل للجريمة المنظّمة والانفلات الامني واتساع العصابات وكثرة المجاميع المسلحة وما ينتج عن ذلك من مظاهر الاسترقاق الانساني والعبودية لأمراء الحروب ورجال العصابات وظهور رؤوس الفساد والخاسئون من الناس والنكرات كي يتحكموا في مصائر الملأ المتعب رقّا واستعبادا وطاعة عمياء وأُجَراء يمارسون القتل والتصفيات الجسدية بمقابل مادي ولو كان ضئيلا مادام الإنسان قد صار بخس القيمة في هذه البقعة المبتلاة بالانظمة الفاسدة والدكتاتوريات&
ولأن حب الحياة والتعلّق بها وغريزة البقاء نابتة وموغلة في أعماق الروح البشرية لذا نرى الانسان يتشبث بها مهما كانت مريرة ومأساوية ؛ فمن يبصر الموت امامه شاخصا مُبرزا أنيابه ومخالبه سيرضى ان يعيش في برك الدماء ومستنقعات الذلّ والامتهان والخوف حتى لو غطس بكامل جسده ويقبل ان يُظهر رأسه فقط من اجل ان يتنفس لكن عينيه تبقيان تتطلعان الى منفذ وأفق يسعى للوصول اليه هروبا من واقعه المدمّر فيفكّر بالهجرة والملاذ الآمن والمستقرّ البعيد مادام يشيع فيه السلام وهذا ما لمستهُ وأنا أعيش بين ظهرانَي شعبي وجلّ من ألتقيه يتطلع الى ترك بلاده والهجرة والهرب الذي اصبح حلماً لكل انسان يريد الخلاص من هذه التراجيديا اللعينة التي ترفض ان تسدل ستارها ؛ ففي كل آنٍ بل وفي كل يوم تقريباً تردنا الأخبار ان صديقنا فلانا قد فرّ وعائلته الى تركيا واستقرّ هناك واخر يعدّ العدة لبيع كل مخلفاته وتصفية متعلقاته ليلحق بجاره او قريبه الذي توطّن لدى ال عثمان تمهيدا لتتريكه واخر لم يستطع التكيّف مع جيرانه الأتراك ولم يجد غير البحر مركبا ويصارع الموج ويواجه الرياح العاتية عسى ان يحطّ به الأمل الى شاطئ السكينة والهدوء في ارض غير أرضه ومنبت غير منبته&
بين حين وآخر أقوم بالاتصال بمعارفي وأصدقائي الذين اختاروا الإقامة في تركيا فيستمر العويل والبكاء والحنين وما عليّ الاّ ان أمارس تهدئة القلوب والأرواح المتلهفة وأعزو هذا الهلع باعتباره طبيعيا خاصة لمن لم يعتد الاغتراب وان هذه الحالات في طريقها الى الزوال ريثما يتكيّف الانسان في حِلّهِ الجديد ويتمرّن على النأي ويجد ضالته من مقربين جدد يأنس بهم مع اني لااخفي رغبتي في الهروب من بلدي ووداعه نهائيا لولا اني مبتلٍ برفيقة عمري العليلة الكسيحة التي لاتقوى على حمل جسدها المثقل بالأسقام وبالكاد تخطو خطوات بمعونة عكّازها&
هؤلاء المهاجرون الى الديار العثمانية معظمهم يسكنون المدن النائية والقصبات البعيدة والقرى بسبب ضيق اليد وغلاء بدلات الايجار في المدن الرئيسية بشكل مهول وهناك الكثيرون من سماسرة العقارات الاتراك من يستغل هذه الاعداد الكثيفة من المهاجرين القاطنين في تركيا لابتزاز اموالهم من خلال رفع بدلات الايجار الى حدّ غير معقول اضافة الى تباري الشركات الاستثمارية العقارية لبناء مجمعات سكنية منتشرة في عموم تركيا لبيع العقارات والشقق لذوي المال والموسرين من المهاجرين واستقطاب اموالهم في مشاريع متنوعة اخرى غير العقارات لامتصاص أرصدتهم المالية &تصحبها إغراءات لتمكينهم من الحصول على الإقامة الدائمية او الطويلة الامد وربما الوعود باكتساب الجنسية لاحقا&
كل ذلك من اجل امتصاص اموالهم وتشغيلها في تنمية الاقتصاد التركي ، اما الطبقات المسحوقة من المهاجرين فليس لهم من خلاص الاّ ان يلجأوا الى مهربي البشر الاتراك ليستقلوا القوارب المتهالكة والزوارق المطاطية غير الآمنة لقاء مبالغ ليست زهيدة وتحدثنا الأخبار بان أجرة الفرد الواحد لايصاله الى احدى جزر اليونان عبر بحر " إيجه " تصل الى 1000 دولار اميركي بواسطة الزورق المطاطي بينما تتصاعد في اليخت الأكثر امنا الى 3000 دولار اميركي ، فالبقاء في تركيا بلا عمل او مورد مالي شهري منتظم من الصعب احتماله لهذا يضطرّ المهاجر المغلوب على أمرهِ الى المخاطرة بنفسه وأسرته ومواجهة احتمالات الغرق ، اما من بقي خائفا من ان يستقلّ المراكب فعليه ان يقطن أمدا طويلا وربما تجاوز الخمس سنوات لينتظر قرارات هيئة الامم المتحدة ومنظمات شؤون اللاجئين أملا في نقله الى بلد آمن&
ويحدثني صديق صحفي نرويجي مقيم في أوسلو منذ مايزيد على العقدين وهو من اصول شرق اوسطية زار تركيا مؤخرا والتقى بالكثير ممن ينوي الوصول الى شواطئ اوربا ؛ ومن ضمن ماقام به انه تنكّر بصفة لاجئ وقد رمته الاقدار في مدينة أزمير وأخذ يبحث عن مافيات مهرّبي البشر الذين قال عنهم انهم يسرحون ويمرحون بكل حرية دون خوف او وجل من السلطات التركية او الخشية من حرس الحدود ولهم اماكنهم المعروفة ومقراتهم غير الخفية عن الانظار وقد استشفّ ان معظم المسؤولين الامنيين من خفر السواحل يغضون البصر عن الرحلات غير الشرعية ربما لتخفيف الضغط والزخم من الكثرة الكاثرة من المهاجرين ، ورأى بأم عينه مستلزمات الحماية لراكبي البحر غير الشرعيين والادوات الخاصة بالابحار تباع في العلن مثل الزوارق المطاطية باحجامها وقد اشترى من أسواق أزمير قطعة واحدة من سترة النجاة المصنّعة في تركيا وعمل على فتقها وتمزيقها ليرى ما في داخلها من مواد ظنّها تعمل على تعويم الانسان المعرّض للغرق ولشدة دهشته انه رأى امتلاءها وتبطينها بسطوح اسفنجية داخل القماش مما يعرّض اللاجئ الى الغرق لا ان يطفو فوق سطح الماء بحيث يثقل جسده نتيجة امتصاص الماء وتجمّعه داخل الاسفنج وكلنا نتابع كم أغرق البحر من الاطفال والعوائل والشباب المتعطشين للحرية الهاربين من جحيم اوطانهم لقوا مصيرهم في افواه البحر ومزّقتْ اجسادهم حيوانات البحر ولم يسلموا من حيتان البرّ ليقعوا ضحايا الحيتان والقروش المفترسة في البحر &
وكل ماتقوله الصديقة الجارة الحميمة جدا لنا تركيا بانها تسيطر تماما على عمليات الهجرة غير الشرعية سواء كانت برّا او بحرا وتسعى الى ايقافها او الحدّ منها على الاقلّ ليس سوى ذرّ الرماد في العيون ايهاما وخديعة مع انها قادرة على ذلك طالما ان تلك الانشطة تدرّ ربحا وفيرا ، فلتذهب المواقف الانسانية الى الجحيم مادام غضّ البصر يثري اقتصادها وينمّي ثرواتها ويزيد من استثمارها لصالح مواطنيها ولو على حساب المسحوقين من جيرانها&
&
&